ما انفجرَ في مرفأ بيروت يوم الرابع من آب 2020 ليس فقط أطنان نيترات الأمونيوم، وإنما أيضاً عقود من غياب الشفافية في العمل هناك، أسوة بالصورة العامة لمؤسسات البلد. وكما طُمِسَت معالم جريمة التفجير وهوية مرتكبيها، تُخفى مسالك الهدر والفساد والمستفيدين منه من عسكريين ومدنيين. ولم يشفع للمرفأ والبلد، حصول التفجير والانهيار الاقتصادي، علَّ الصدمة تؤدّي إلى تصحيح الأخطاء، بل استمرَّت الارتكابات بلا حسيب أو رقيب.
إحدى الارتكابات المستمرة في مرفأ بيروت، هي تلك المتعلّقة بما يسمّى “رسم الخدمات”، وفق ما تقوله مصادر في سلك الجمارك في المرفأ. ويشكّل هذا الرسم باباً للتنفيعات “يستفيد منه الكثير من المدنيين والعسكريين، حسب اختلافات مواقعهم الوظيفية ورتبهم العسكرية”. فما هو هذا الرسم وأين تذهب أمواله؟
زيادة بسبب الأزمة
على شاكلة الرسوم والضرائب والأسعار التي ارتفعت مع تغيُّر سعر صرف الليرة “ارتفع رسم الخدمات على المستوعَب المستورَد من نحو 2 و3 مليون ليرة قبل العام 2019 إلى مئات ملايين الليرات حالياً”، تقول المصادر التي تشير إلى أن “عائدات ذلك الرسم تُوَزَّع وفق نظام الحصص، وكل حصّة كانت قبل الأزمة بنحو 30 أو 40 ألف ليرة، وأصبحت اليوم بين مليون ومليون و200 ألف ليرة”.
ويأتي ارتفاع رسم الخدمات مرافقاً لارتفاع التقديمات التي يحصل عليها الموظّفون، ومنها قيمة صفائح البنزين وزيادات الرواتب. وإن كانت الأخيرة حقّاً مكفولاً بشكل قانوني، إلاّ أن رسم الخدمات “لا أحد يعرف كيف يُحَدَّد وكيف يُوزَّع، وارتفعت قيمته مع ارتفاع الأسعار، وكأنَّ حالات الفساد متجذِّرة ومقوننة في هذا البلد”، تضيف المصادر.
الدفع يبدأ لحظة وصول المستوعبات
تبدأ رحلة رسم الخدمات منذ لحظة وصول المستوعبات المستورَدة إلى المرفأ. وتبيِّن المصادر أن “البضائع المستورَدة تحتاج وقتاً لتخليصها ضمن السياق القانوني الطبيعي، وهنا تولَد الاتفاقات بين بعض الموظفين والعسكريين ومخلّصي البضائع، وعلى صاحب البضائع دفع رسم الخدمات من خلال مَن يتعهّدون تخليصها. ويُبَرَّر رسم الخدمات بأن الموظفين يعملون ساعات إضافية ويعملون في اوقات مختلفة وظروف قاهرة، فيكون الرسم بمثابة تحفيز لهم أو عربون شكر، لكن لا شيء من هذا القبيل موجود بصيغة قانونية”.
وتشرح المصادر أن “قيمة الرسم يُحَدَّد من قِبَل موظفين كبار في إدارة الجمارك، وهم يحدّدون كيف تتوزَّع الحصص بين الموظفين والعسكريين. ولا علاقة لوزارة المالية بهذا الرسم ولا يذهب أي جزء منه إلى الخزينة العامة”.
هي أموال “مجهولة”، بالنسبة للمصادر، ليس لأنها خفيّة ولا يعلم بها أحد، بل لأنها “محجوبة عن الخزينة والمصلحة العامة”. يزيد الرسم تباعاً ولا مجال لانخفاضه “ودائماً السلطات العليا في الجمارك هي التي تحدّد كل شيء”. علماً أن “الحصص الأكبر تذهب للموظفين المدنيين وليس العسكريين”. وأصحاب المراتب العليا من الموظفين المدنيين “يسجّلون أسماءهم في لجان يُفتَرض بها اتخاذ قرارات تحسِّن من العمل في المرفأ وتطوِّره، لكن هذه اللجان لا تأخذ قرارات مماثلة، بل يستفيد أعضاؤها من تقديمات ومبالغ مالية تحت مسميات متعدّدة لا أحد يعرف جوهرها سوى المستفيدين منها”.
وتلفت المصادر النظر إلى أن “بعض الرسوم والمخصصات الآتية من أصحاب البضائع ومخلِّصيها في المرفأ، كانت تُجبى بحجّة إفادة العسكريين والمتقاعدين منها، فيما لم يرَ العسكريون شيئاً منها”. وتطالب المصادر وزارة المالية بوصفها الوزارة الوصية على الجمارك “بالتحرّك الفوري والتحقيق بكل ما يُجبى ويُدفَع في المرفأ”.
رفع الأسعار على المستهلكين
ما يُدفَع على البضائع في مرفأ بيروت وغيره من مرافق الدولة، ينعكس على أسعار السلع التي ترتفع تحت حجّة الرسوم والضرائب، بغضّ النظر إن كان الدفع قانونياً أو غير قانوني. وعليه، تقول المصادر أن “الرسوم التي يدفعها أصحاب البضائع، والتي يستفيد منها الموظفون، يعيدها المواطنون إلى صاحب البضائع من خلال رفع الأسعار، فلا أحد من التجّار يدفع ليرة واحدة من جيبه، بل كلّه يُسَجَّل على حساب المواطنين”.
وتميِّز المصادر بين رسم الخدمات والمبالغ التي كانت تُدفَع سابقاً تحت إسم “المساعي”، وهي “أجرة إضافية كانت تُدفَع للعمال والموظفين لتخليص البضائع ليلاً أو في ساعات متأخرة بعد الدوام الرسمي، وكانت تُحَدَّد بحسب ساعات العمل، وكانت مبالغها معروفة. أما اليوم، فلا شيء معروف وأرقام المبالغ مفتوحة”.
أيضاً، ومنعاً للتأويل، تضع المصادر جانباً “ألحوافز والمكافآت التي يحصل عليها الموظّفون والعسكريون عند ضبطهم بضائع مهرَّبة أو أي مخالفة قانونية، فهه مكافآت موجودة في كل دول العالم”.
أمام ما يحصل في مرفأ بيروت في ظل الحاجة للإصلاح في مرافق الدولة العامة، تدعو المصادر وزارة المالية والمجلس الأعلى للجمارك، إلى “التحرّك ووضع حدّ لكل التجاوزات التي تحصل. فآن الأوان لإعادة انتظام عمل المؤسسات العامة والأجهزة الرسمية”.