في الوقت الذي لم يطو فيه بعد ملف التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وملف التحقيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا ومعاونته ماريان حويك، وملفات قضائية اخرى لا تزال مفتوحة، انشغلت الاوساط القضائية والسياسية على حد سواء بابعاد الرسالة التي تلقاها القضاء اللبناني من السلطات الفرنسية التي طالبت فيها استجواب اشخاص تشتبه باريس بتورطهم في جريمة تفجير مقر المظليين الفرنسيين قرب مطار بيروت الدولي المعروف بــ " دراكار" في العام 1983 والذي تلاه تفجير آخر استهدف مقر " المارينز" الاميركيين في المنطقة نفسها، والقوتان الفرنسية والاميركية كانتا في عداد القوات المتعددة الجنسيات التي انتشرت في بيروت الكبرى مع بداية عهد الرئيس امين الجميل لتأمين الامن بعد انسحاب القوات الاسرائيلية التي احتلت العاصمة في العام 1982. الرسالة الفرنسية شددت على ضرورة تزويد السلطات الفرنسية بالنتائج " ليبنى على الشيء مقتضاه"، واوردت اسمين: يوسف خليل، وسناء خليل، من دون اي تفصيل اضافي يمكن ان يساعد القضاء اللبناني في التحقيق. في الشكل الرسالة حملت توقيع المدعي العام في باريس ووصلت الى نظيره اللبناني القاضي غسان عويدات، والطلب يندرج في اطار التعاون القائم بين السلطتين القضائيتين في كل من لبنان وفرنسا. لكن في المضمون لا معطيات دقيقة عن اسباب اتهام يوسف وسناء خليل في جريمة وقعت في 23 كانون الاول( ديسمبر) 1983، وانتظر القضاء الفرنسي 40 عاما لتحريكها من جديد بحثا عن شخصين توافرت شبهات لدى الفرنسيين بتورطهما مع آخرين بتدبير العملية الانتحارية بواسطة شاحنة مفخخة والتي اسفرت يومها عن مقتل 58 جنديا فرنسيا وتدمير المبنى بكامله.
صحيح، تقول مصادر قضائية معنية، ان الاستنابة ليست سابقة ولا خروجا عن بنود معاهدة التعاون القضائي الموقعة بين البلدين، لكن الصحيح ايضا ان توقيت ارسالها اثار علامات استفهام كثيرة لانها تأتي في ظروف حساسة يمر بها الوضع في لبنان سياسيا واقتصاديا وامنيا، كما تتزامن مع تعقيدات عدة تشهدها ملفات قضائية دقيقة كان للقضاء الفرنسي مشاركة فيها، مثل جريمة تفجير مرفأ بيروت التي يواجه التحقيق فيها جمودا غير مسبوق بفعل دعاوى الرد التي استهدفت المحقق العدلي القاضي طارق البيطار. فضلا عن ان المطلعين على اصول صياغة الاستنابات القضائية وتبادل المعلومات، توقفوا خصوصا عن الهدف من اعادة الحياة الى جريمة مضى على وقوعها 40 عاما، علما ان المراسلة الفرنسية التي تشدد على استدعاء الشخصين من آل خليل لا تورد الاسماء الكاملة لهما ولا اي معلومات اضافية، كما انها لا تحدد جنسيتهما ومدى مسؤولية كل منهما، وتتوقف المصادر القضائية عند " الاحراج" الذي سببته الرسالة للمسؤولين القضائيين اللبنانيين لان جريمة تفجير مقر " الدراكار" الفرنسي سقطت بالنسبة الى القضاء اللبناني بفعل تقدم الزمن ولم يعد جائرا اعادة التحقيق فيها لان ايا من الاطراف المعنية بها لم يحرك تجاهها ساكنا طوال العقود الاربعة الماضية. وفي حين ذهب البعض الى ادراج الرسالة الفرنسية كجزء من الضغط الفرنسي على القضاء اللبناني الذي يتقاعس في حسم الكثير من القضايا العالقة، اعتبرت مصادر اخرى ان في الرسالة ما يشبه الضغط السياسي على لبنان في ظل الافق المسدودة في كل اتجاه.
هل يتغاضى لبنان عن الطلب الفرنسي؟
الا ان بعض الذين رافقوا حدث تفجير مقر المظليين الفرنسيين ومقر " المارينز" قرب المطار، عادوا بالذاكرة الى هاتين الجريمتين وقد تبنتهما في حينه " حركة الجهاد الاسلامي" بهدف اخراج القوات المتعددة الجنسيات من بيروت لكن القوات الاميركية حملت لاحقا حزب الله مسؤولية العمليتين واتهمت تحديدا المسؤول الامني في الحزب عماد مغنية الذي اغتيل قبل سنوات في سوريا. ويومها قال الاميركيون ان جميع المشتبه بهم في التفجير المزدوج باتوا قادة في هذا الحزب. لكن التحقيقات التي اجريت في بيروت لم تتوصل يومها الى نتائج دقيقة وظلت الشبهات تحوم من دون اثبات قاطع، وقد لعب الوجود السوري آنذاك في عدم التوسع في التحقيق الذي اقفل على ... لا شيء. واذا كان لبنان تغاضى عن المضي في التحقيق في الجريمتين لاسباب مختلفة قبل 40 يوما، الا انه لا يستطيع اليوم ان يتجاهل طلبا قضائيا فرنسيا الامر الذي سوف يسبب احراجا للحكومة اللبنانية مع الادارة الفرنسية السياسية منها والقضائية ما قد يؤثر سلبا على ملفات كثيرة يتعاون لبنان وفرنسا على معالجتها، وفي مقدمها ملف الاستحقاق الرئاسي، وملف المساعدات الانسانية والاجتماعية وغيرها، لاسيما وان ثمة من يربط بين هذا التطور والمؤشرات التي برزت مؤخرا مع مشاركة فرنسا ودول اوروبية اخرى بالملفات المالية، ثم بالدخول مباشرة على ملف التحقيق بانفجار مرفأ بيروت، والتلميح الى رغبة اوروبية بالمشاركة في التحقيق المتصل باستهداف دوريات القوة الدولية العاملة في الجنوب( اليونيفيل) واخرها اطلاق النار على دورية تابعة للكتيبة الايرلندية في بلدة العاقبية الجنوبية ومقتل احد افرادها.
وفيما رجحت مصادر متابعة في قصر العدل أن "يتجه القضاء إلى حفظ هذه الاستنابة، وعدم اتخاذ أي إجراء بشأنها بسبب تقادم الزمن"، اعتبر رئيس مؤسسة "جوستيسيا" الحقوقية المحامي بول مرقص أن "جريمة تفجير مقر الكتيبة الفرنسية سقطت بمرور الزمن وفق القانون اللبناني، لكن ربما اعتمد القضاء الفرنسي إجراءات تمنع سقوط مرور الزمن عن هذه الجريمة" وقال أنه "في غياب اتفاقية قضائية بين البلدين لا شيء يلزم لبنان بالتجاوب مع هذا الطلب من الناحية القانونية، لكن سياسياً قد يكون مضطراً للتعاون أو تقديم معلومات لتجنب عقوبات قد تفرض على لبنان جراء هذه القضية".
وقد يكون مصير المذكرة الفرنسية شبيهاً بالقرار الذي اتخذ بجريمة تفجير مقر "المارينز" باعتبار أن لبنان لا يحتمل فتح ملفات الحرب الأهلية من جديد التي قد تبدأ بهذا الملف وربما تمتد إلى حقبة خطف الرهائن الأجانب والسفراء ما يضع البلاد تحت وصاية قضائية جديدة.