يحدث ذلك في لبنان: دولة بلا رئيس، مجلس نوابها منقسم الى كتل تعطل بعضها البعض وتمنع انتخاب رئيس جديد للبلاد، مجلس وزراء لا يمكنه ان يلتئم من دون مشاكل لان الحكومة معتبرة مستقيلة ودخلت في مرحلة تصريف الاعمال، وآخر " انجاز" هو التضارب الحاصل داخل السلطة القضائية، وهو تضارب يشمل الصلاحيات من جهة ومسار التحقيق في جريمة وصفت بــ " جريمة العصر" هي التفجير الذي شهده مرفأ بيروت في 4 آب ( اغسطس) 2020 واوقع 248 شهيدا واكثر من 6 الاف جريح ومعوق، ودمر نصف العاصمة وشرد سكانها. لن يكون من السهل ايجاد توصيف لما حصل في هذا الملف القضائي الاسبوع الماضي اكثر من القول بان السلطة القضائية في لبنان تترنح وهي آيلة للسقوط اذا استمرت الفوضى التي تعيشها منذ تعطيل التحقيق في جريمة تفجير المرفأ لاسباب مختلفة حالت دون اصدار المحقق العدلي القاضي طارق البيطار قراره الظني على رغم مرور اكثر من سنتين ونصف السنة على وقوع التفجير. الا انه وفجأة قرر القاضي البيطار العودة الى التحقيق بعدما كان توقف نتيجة دعاوى الرد التي قدمت بحقه من شخصيات سياسية ادعى عليهم. الا ان عودته المفاجئة طرحت اكثر من علامة استفهام لا تزال الاجابة عنها غامضة لاسيما وانه قرر متابعة التحقيق واصدار قرارين، قضى الاول بتخلية خمسة موقوفين في الملف وتحديد جلسة استدعى اليها ثمانية اشخاص بينهم مسؤولان امنيان وقضاة لاستجوابهم كمدعى عليه، بينهم المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، والمدير العام لامن الدولة اللواء طوني صليبا والمدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم. وبدا ان القاضي البيطار غير رأيه في مسألة كف يده وعاد الى العمل استنادا الى دراسة قانونية اعتبرت ان صلاحية المحقق العدلي حصرية ولا يمكن رده او نقل الدعوى من يده الى يد قاض آخر كون مركزه لصيقا به فاذا غاب هو غاب هذا المركز. واشارت الدراسة الى ان القاضيين الياس عيد المحقق العدلي في جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وسلفه القاضي فادي صوان رضخا بقبول ردهما. وفي رأيه ان المحقق العدلي لا يتم رده لأن المجلس العدلي لا يرد بالإستناد الى قرار سابق لرئيس المجلس العدلي في حينه القاضي الراحل فيليب خير الله. وتبعاً رأى القاضي البيطار في دراسته ان الهيئة العامة لمحكمة التمييز إعتبرت ان محكمة التمييز هي المرجع الصالح لبت طلب رد المحقق العدلي وهو إجتهاد لم يقتنع به من الناحية القانونية، وغير ملزم لأن الإجتهاد لا قوة ملزمة له إنما له قوة معنوية فحسب. ويذهب الى ان المجلس العدلي هو أعلى محكمة ولا تعلوه اي محكمة (بما في ذلك محكمة التمييز) او أي هيئة قضائية (الهيئة العامة لمحكمة التمييز)، مذكّرا بان الإجتهاد قبل تعديل قانون اصول المحاكمات الجزائية الجديد كان يمنع رد اعضاء المجلس العدلي، ليتدخل المشترع بعد التعديل مجيزا ردهم وتنحيتهم من دون ان يجيز هذا الأمر للمحقق العدلي. كما ان المشترع جعل قضاة إضافيين لهم لملء الشغور عند غيابهم لاسباب طارئة او صحية او الإحالة على التقاعد، في حين لم يلحظ تعيين محقق عدلي إضافي الى المحقق العدلي الأصيل، في إشارة الى عدم قانونية تعيين محقق عدلي رديف. لقد جعل المشرع من المحقق العدلي محققا خاصا لا تنطبق عليه احكام الرد والتنحية، وتنتهي مهامه بإصداره القرار الإتهامي، راميا في ذلك الى عدم عرقلة التحقيقات في الجرائم الهامة التي تحال على المجلس العدلي الذي يبقى له في حال التظلم من اي قرار كان اصدره المحقق العدلي النظر نهائيا بمدى صوابيته.
وركز القاضي البيطار في قراره على ان تعيين المحقق العدلي هو قرار مستقل ومنفصل تماما عن مرسوم إحالة الجريمة على المجلس العدلي. ولا ينشأ مركزه إلا بعد صدور قرار عن وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بحيث يكون المركز لصيقا بالمحقق العدلي المسمى، ما يستنتج منه ان اي قرار بتنحية المحقق العدلي ينطوي حتما على إلغاء مركز جرى إنشاؤه إداريا بموجب قرار وزاري ويشكل إخلالا بمبدأ فصل السلطات المنصوص عليه في الدستور اللبناني، فضلا عن ان نقل الدعوى يفترض وجود مرجع قضائي آخر مواز ومماثل للمرجع القضائي المطلوب نقل الدعوى من امامه، وهو امر غير متحقق في حالة الطلب الرامي الى نقل الدعوى من امام المحقق العدلي، المكلف إسميا بموجب قرار تعيينه في قضية محددة، في ظل عدم وجود اي مرجع آخر قائم ومواز له يمكنه ان يتابع التحقيقات في حال تقرر النقل، ما يجعل من غير الممكن تقديم هذا النوع من الطلبات بوجهه، مؤكدا ان صدور قرارات قضائية خلافا لذلك يندرج في إطار الإجتهادات القضائية التي وإن كانت لها مفاعيل توجيهية، إلا أنها لا تتسم بقوة الإلزام. لذلك لا تكون دعاوى الرد والمخاصمة والنقل المقدمة في قضية المرفأ سارية في حق المحقق العدلي، ويقتضي متابعة السير في التحقيقات من النقطة التي وصلت إليها.
وأشار القاضي البيطار الى ان المادة 356 من قانون اصول المحاكمات الجزائية أخذت في الإعتبار معيارا واحدا يتعلق بطبيعة الفعل الجرمي لإحالة الدعوى العامة على المجلس العدلي، من دون إعطاء أي اعتبار لهوية المرتكبين المشتبه بهم سواء أكانوا من السياسيين ام الإداريين ام العسكريين ام القضائيين. فقد كرست هذه المادة المفعول الساحب للجرائم المحالة على المجلس العدلي، بحيث يصبح المجلس العدلي المرجع الوحيد الصالح للبت بها، في اشارة الى القضاة الذين كان طلب القاضي البيطار ملاحقتهم طبقا للاصول المرعية ولم يجب طلبه، واعتبر ان نص هذه المادة اعطى المحقق العدلي صلاحية موازية لسلطة الملاحقة وتكون له بالتالي صلاحية الملاحقة متى اصبحت الدعوى امامه.
تداعيات قرار البيطار: مواجهة مع عويدات
الا ان قرار القاضي البيطار بالعودة وبالادعاء لم يمر مرور الكرام لدى المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات الذي اعاد نفسه، هو الاخر الى الملف على رغم انه كان تنحى عنه منذ بداية التحقيق لوجود صلة قربة بينه وبين احد المدعى عليهم الوزير السابق والنائب الحالي غازي زعيتر، فاعتبر عويدات ان كل ما صدر عن البيطار غير قانوني لانه لم يبت بعد بطلبات الرد والمخاصمة المقدمة ضده لتعذر تشكيل هيئة محكمة التمييز للاسباب التي باتت معروفة، وبالتالي فليس من حق البيطار العودة الى التحقيق والادعاء. ولم يكتف عويدات بذلك بل امر باطلاق جميع الموقوفين في الملف ومنعهم من السفر وابقائهم بتصرف المجلس العدلي، لتنفجر بعد ذلك ازمة اجتهادات قانونية حول صلاحية المدعي العام التمييزي والقاضي البيطار على حد سواء، وهذه الاجتهادات تضاربت على نحو " ضاعت فيها الحقيقة واختلط الحابل بالنابل ولم يتمكن مجلس القضاء الاعلى من الاجتماع للنظر في هذه الاشكالية وحصل هرج ومرج امام قصر العدل يوم الاجتماع، كما حصلت مواجهة بين نواب من المعارضة ووزير العدل القاضي هنري خوري رافقتها صدامات بين عناصر امنية وعدد من النواب سببت ازمة اضافية وردود فعل جعلت السلطة القضائية في وضع لا تحسد عليه ووضعت القضاة امام مأزق سيستمر في التفاعل خصوصا اذا ما قرر القاضي البيطار النزول الى مكتبه في 6 شباط ( فبراير) الجاري لعقد جلسات تحقيق مع الذين ادعى عليهم، علما ان القاضي عويدات طلب الى القوى الامنية عدم التجاوب مع اي مذكرة او دعوى تبليغ تصدر عن القاضي البيطار وخاطبه في مراسلات استهلها بوصفه " القاضي المكفوفة يده". وتتحدث مصادر قضائية ان القاضي عويدات سوف يتعاط مع القاضي البيطار اذا ما عاد الى استئناف عمله، بانه " مغتصب لسلطة لا يملكها" لان هيئة محكمة التمييز ( غير المشكلة بعد) لم تبت بطلبات رده التي فاقت الـــ 40 طلبا، واستطرادا فان الامور قد تصل الى حد مطالبة النيابة العامة التمييزية بالاستحصال على الملف من المحقق العدلي، لكن ان حصلت اي مواجهة بين العناصر المولجة حماية البيطار والقوة المكلفة بالمهمة من قبل النيابة العامة التمييزية، فمن يضمن نتائجها على الارض؟ ولقد كبل عويدات القاضي بيطار من كل الجوانب، لم يكتف بعدم تعميم التبليغات على القوى الامنية في استلام اي اشارة، لكنه ايضا منع القوى الامنية من استلام اي اشارة قضائية الا تلك الصادرة عنه. هذه الخطوة بحسب المصادر هي استباقا لاي مذكرة توقيف قد يصدرها البيطار كونه يحق للمحقق العدلي ان لا يمر بالنيابة العامة التمييزية لتسجيل اي مذكرة توقيف على عكس التبليغات وتكون علاقته مباشرة مع القوى الامنية. عدم تسجيل مذكرات التوقيف في حال صدورها يجعلها بحكم غير الموجودة. وخلفية خطوة عويدات تعود الى ان التبليغ لصقا امام باب المحقق العدلي، كما هو حاصل اليوم مع النائب غازي زعيتر والوزير السابق نهاد المشنوق والرئيس حسان دياب. يكون عادة مقدمة لاصدار مذكرات توقيف بما انه سبق للمحقق العدلي ان ابلغ هؤلاء الثلاثة قبل كف يده ولم يحضروا في هذا الوقت، يدور مجلس القضاء الاعلى في اللاقرار وسط انقسام اعضائه بين رئيسه القاضي سهيل عبود الداعم للبيطار من جهة واعضائه الاخرين الذين لا يخفون رغبتهم بتعيين قاض بديل عن البيطار تحت ذريعة تسيير التحقيقات بعدما سقطت حجة القاضي المنتدب بالبت باخلاءات السبيل.
ماذا عن ضغط السفيرة الاميركية؟
والى ان يتضح موقف مجلس القضاء الاعلى ومصير التحقيق في انفجار المرفأ، لا بد من التوقف عند امرين طرحا بقوة بعد انفجار الملف القضائي: الاول المطالبة التي اطلقها 40 نائبا من احزاب المعارضة و" التغييريين" والمستقلين بمحاسبة المدعي العام التمييزي القاضي عويدات " بسبب ما قام به من مخالفات فاضحة وتدخل مباشر في ملف لدى المحقق العدلي"، معتبرين ان ما يجري " اغتيالا للعدالة في مقتلة بيروت التاريخية". والامر الثاني ما تردد من روايات حول ضغط مارسته السفيرة الاميركية في بيروت" دوروثي شيا "على القاضي البيطار ثم القاضي عويدات للافراج عن احد الموقوفين الذي يحمل الجنسية الاميركية الى جانب جنسيته اللبنانية وهو مسؤول امن المرفأ محمد زياد العوف الذي كان تعتبر الادارة الاميركية انه " رهينة يجب تحريره". وتقول المعلومات ان القاضي البيطار كان ينوي اطلاق العوف في الدفعة الثانية بعد قراره باطلاق خمسة موقوفين، وذلك استجابة للطلب الاميركي. لكن القاضي عويدات " سبقه" الى اطلاق جميع الموقوفين وبينهم المدير العام للجمارك بدري ضاهر، وتشير معلومات تناولتها جهات مطلعة ان القاضي عويدات زار السفيرة الاميركية في السفارة في عوكر بناء على طلبها، وخلال الاجتماع ابلغته ان الافراج عن العوف امر ضروري لا يمكن التغاضي عنه، والا فان الادارة الاميركية في صدد انزال عقوبات في حق كل من يعرقل اطلاقه على مختلف المستويات. كذلك وصلت معطيات مماثلة الى رئيس مجلس القضاء سهيل عبود وتداول معها مع القاضي البيطار ثم مع القاضي عويدات. واللافت في هذا الاطار ان العوف غادر مطار رفيق الحريري الدولي فور خروجه من السجن على رغم ان قرار القاضي عويدات باطلاق سراح الموقوفين اقترن بمنعهم من السفر وحجز جوازات سفرهم... وهنا برزت روايتان، الاولى ان العوف غادر المطار قبل وصول قرار القاضي عويدات بمنع سفر المفرج عنهم، فيما تقول الرواية الثانية ان اشارة منع السفر وصلت الى المطار، لكن لدى وصول العوف تمت مراجعة النيابة العامة وكان ردها بالسماح له بالسفر! كل هذه الروايات لن تجد حتما من يؤكدها، لان الغموض اكتنف هذا الملف والحديث عن " ضغوطات" اميركية مورست على القضاة، قابلها حديث آخر عن " نصائح" وجهها الوفد القضائي الفرنسي الذي قابل القاضي البيطار مرتين، بان يستأنف عمله ويتجاهل دعاوى الرد المرفوعة ضده.
وفيما قالت مصادر القاضي عويدات انه ليس في وارد اتخاذ اي اجراءات اضافية بحق القاضي البيطار الا اذا تجاوز دعاوى رده ومخاصمته وقرر المضي في التحقيق، تشير مصادر قريبة من القاضي البيطار انه ينطلق من الدراسة التي استند اليها ليعتبر ان المدعي العام التمييزي لا شأن له في هذا الملف لانه طلب تنحيته وصدر قرار بذلك من محكمة التمييز منذ بدء التحقيق في جريمة المرفأ، وبالتالي لن يأخذ في اي قرار صدر عن عويدات وسيتابع مهامه كالمعتاد لاسيما بعد 6 شباط ( فبراير) الموعد الذي حدده لمثول عدد من الذين ادعى عليهم. وطرحت مصادر قضائية سلسلة اسئلة تتناول تصرف القاضي البيطار منها كيف يمكن تبرير تذكره صلاحيات المحقق العدلي الواردة في الدراسة التي استند اليها، بعد 13 شهرا من كف يده في كانون الاول(ديسمبر) 2021 وليس قبل هذه المدة، وبالتالي فاذا كان البيطار مقتنعا بدراسته حول صلاحيات المحقق العدلي، كيف قبل تسلم المهمة من المحقق العدلي السابق القاضي فادي صوان المتنحي قانونا بعد قرار محكمة التمييز الجزائية برئاسة القاضي جمال الحجار في شباط ( فبراير) 2021 نقل ملف التحقيقات بانفجار المرفأ من يد صوان الى قاض آخر. كذلك هناك، في رأي المصادر نفسها، سوابق منها في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه اذ تنقل ملف احالة الجريمة الى المجلس العدلي بين ثلاثة قضاة هم ميشال ابو عراج ( تنحى في آذار (مارس) 2005 والياس عيد ( نقل الملف منه في ايلول( سبتمبر) 2007)، وصقر صقر. كذلك ثمة من يتساءل كيف يمكن للقاضي عويدات المتنحي عن ملف المرفأ ومحكمة التمييز ....... تنحيه، ان يعود عن التنحي ويصدر قرارات في الجريمة التي ابعد نفسه عنها بسبب صلة القربى مع النائب زعيتر.
كلها اسئلة لن يجد الرأي العام اجابات عنها بل ستبقى موضع جدل ونقاش واجتهاد وتحليلات، لكن الثابت ان " انقلابا" ما حصل في السلطة القضائية تم فيه تجاوز كل الخطوط الحمر التي استبيحت للمرة الاولى في تاريخ القضاء اللبناني، وهي تحمل، ويا للاسف، مؤشرات التفكك وان الانهيار لن يقف عند هذه الحدود، وستكون السلطة القضائية، كما السلطتين التنفيذية والتشريعية في موقع الالتباس والضياع.... لكن هذا الصراع القضائي الراهن سيؤدي الى تعليق التحقيق في "جريمة العصر" فهل هذا هو المطلوب؟