حرّكت المصالحة السعودية- الايرانية برعاية صينية التي اعلنت الاسبوع الماضي في نهاية " ماراتون" طويل من التفاوض المباشر حينا وغير المباشر احيانا، المشهد الرئاسي في الداخل اللبناني الذي اصابه الجمود القاتل منذ اكثر من ثلاثة اسابيع، فتجددت فجأة الاتصالات وعاد النشاط الى عين التينة والمقرات الحزبية الاخرى، وسال حبر كثير في المقالات والتحليلات حول الحدث الذي يفترض ان تكون له تداعيات على اكثر من خط. وكالعادة انقسم اهل السياسة في لبنان حيال هذا الملف الى قسمين، الاول روّج بان تأثير الاتفاق السعودي- الايراني سيكون محدودا الى درجة الانعدام بسبب رفض طرفي الاتفاق التدخل في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي وفق ما صدرت صراحة عن الرياض وطهران في مناسبات مختلفة. وذهب اصحاب هذا الرأي الى القول بان " وهج" الاتفاق سيتراجع في الاتي من الايام على نحو متدرج لان الاهتمام السعودي والايراني سينصب في مرحلة اولى على الوضع في اليمن باعتباره النقطة الاكثر سخونة بين البلدين والمسألة الابرز في اولوياتهما، في حين يأتي لبنان بالدرجة الثالثة ربما بعد ملف العراق وحساسيته، في حين لا يبدو ان للملف السوري في الوقت الحاضر اي مفاعيل على الاتفاق. ويقول اصحاب هذا الرأي ان الجانب السعودي تبلغ في اكثر من مرة من الجانب الايراني ان ملف لبنان والمسائل المرتبطة بحزب الله يجب ان تناقش مع اللبنانيين عموما، ومع الحزب خصوصا، وان ما تردد في الماضي عن اجتماعات حصلت بين السفير السعودي في لبنان وليد البخاري ومقربين من حزب الله يمكن ان يتطور ليصبح التواصل مباشرا بين ممثل عن الحزب والسفير البخاري، علما ان صلة الوصل غير المباشرة كانت لأشهر خلت، من خلال المدير العام السابق للامن العام اللواء عباس ابراهيم الذي احيل على التقاعد مع مطلع الشهر الجاري. ولا يتوقع اصحاب هذا الرأي ان يكون اللقاء المباشر بين الحزب والسفير السعودي قريبا في انتظار ما ستحمله مهلة الشهرين للاتفاق التي طلبته السعودية من تطورات في هذا الملف.
اما اصحاب الرأي الثاني الذين يرون تأثيرا ايجابيا للتفاهم السعودي- الايراني على لبنان، فينطلقون من القول بان مجرد حصول التفاهم، فان الاطراف اللبنانيين، من الفريقين الموالي والمعارض، ممن كانوا يتكئون على الرياض وطهران، سيجدون انفسهم شبه وحيدين على الساحة اللبنانية من حيث القدرة على التأثير في مجرى الاحداث او على تنفيذ " اجندات" كانوا اعتادوا تنفيذها بطلب من الرياض او طهران. ومن شأن هذه " الوحدة" التي سيشعر بها الاطراف بعد تراجع الغطاء الاقليمي التدريجي، ان يؤدي الى اقتراب الاطراف اللبنانيين بعضهم من البعض الاخر والتسليم بالحوار ما سيكون من مصلحة الفريقين المتنازعين بحيث يكون الحوار " مخرجا" للطرفين عوضا عن بقاء احدهما خارج الصورة من جهة، ولئلا يسجل فريق " انتصار كامل"، في حين انه يمكن ان يكون الامر " نصف انتصار" مع ما يعني ذلك، في لغة الاستحقاق الرئاسي، امكـــــانية الــــوصول الى اتفـــاق على " تسوية" على موقعي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. ويرى دعاة هذا الرأي بان اعادة العلاقات الديبلوماسية بين الرياض وطهران وفتح السفارتين في البلدين خلال شهرين يشكل عمليا عودة التقارب بين قطبين لهما تأثيرهما على الساحة اللبنانية المأزومة وسيكون هناك بالتالي تأثير بشكل او بآخر على الوضع ليس فقط في لبنان، بل على كل مسارات التوتر والصراعات التي حصلت في عدد من الدول العربية ولاسيما اليمن والعراق ولبنان وسوريا.
وبين هذين الرأيين ينبري " المتحفظون" عادة الى التريث في قراءة الخطوة ومفاعيلها مستقبليا ومساراتها المحتملة، ذلك ان من بين " المتحفظين" من يخشى من تلاعب ايراني في التواقيت والمواعيد والالتزامات انطلاقا من ممارسات مماثلة سابقة، فيما يرى آخرون من بين هؤلاء ان السعودية التي طلبت مهلة شهرين لاستكمال مفاعيل المصالحة، قاربت هذه المسألة بحذر وهي ابلغت الوسيط الصيني بجملة تحفظات اخذها الوسيط على عاتقه، لكن ذلك لا يسقط واجب الحذر الذي تعتمده الرياض في تعاطيها مع الملفات العالقة لاسيما في الدول العربية التي تدعمها او تلك التي تخاصمها. ويرى " متحفظون" آخرون ان الموقف الاميركي من التفاهم الايراني- السعودي لم يكن بالحجم نفسه الذي صدر عن دول اخرى، ذلك ان واشنطن التي سارعت الى الاعلان عن علمها باجواء المحادثات وانها ترحب باي خطوات من شأنها تخفيف التوتر في اليمن ودول الشرق الاوسط، اقرنت موقفها بالاشارة الى ان العبرة تبقى في التنفيذ، وان الحذر يبقى قائما على قاعدة المثل اللبناني الشعبي " ما تقول فول حتى يصير بالمكيول"!
هل يكون فرنجية مستفيداً.... ام التسوية
في الترجمة العملية للمتفائلين بانعكاس الاتفاق الايراني- السعودي ايجابا على الساحة اللبنانية، يذهب البعض الى القول بان مثل هذا التقارب سيستفيد منه رئيس تيار " المردة" سليمان فرنجية، الذي رشحه " الثنائي الشيعي" ، فيما تريث هو في ترشيح نفسه، ونال مديحا من الرئيس نبيه بري امام مجلسي نقابتي الصحافة والمحررين على انه القادر على ان يجمع بين اللبنانيين ويحاور العرب والغرب، بعدما كان سبقه الى اعلان الدعم والتأييد الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله من دون ان يكثر من المديح الشخصي لفرنجية، علما ان السيد نصر الله كان اعتبر قرار استئناف العلاقات الديبلوماسية تحولا جديدا" سيكون لمصلحة شعوب المنطقة، واذا سار الاتفاق في المسار الطبيعي سيفتح افاقا في كل المنطقة ومن ضمنها لبنان".
لكن ثمة من يرى ان ولادة الاتفاق الايراني- السعودي لا تعني ان حظوظ فرنجية الرئاسية ارتفعت وتراجعت حظوظ مرشحين آخرين، سواء كانوا من الصف الاول او من الصف الثاني في ما يعرف بــ " المخطط ب" وبالتالي فان الحديث عن " حسم" الاستحقاق قريبا لا يأتلف مع الواقع، في حين ان الممكن هو ان يتسهل الحوار الداخلي وستجد اي صيغة حل مقترحة من يساندها لا من يضع العصي في دواليبها. وليس خافيا ان فريقي المعارضة والممانعة في لبنان ينتظران انعكاسات هذا الاتفاق على الملف الرئاسي كلا وفق ما يتمنى، حتى اذا ما تعذر وصول كل طرف الى مبتغاه، سلم الطرفان بنتائج التفاهم المستجد. الا ان الواقع السياسي الراهن يظهر ان حظوظ فرنجية لا تزال كما كانت قبل الاتفاق- بسبب استمرار رفض الكتل المسيحية " القوات اللبنانية" و" لبنان القوي" والكتائب دعم رئيس " المردة".
وان كان ثمة من يتحدث عن ان الحوار في شأن ترشيح فرنجية يمكن ان ينطلق بين " الثنائي الشيعي" والسعودية لتحسين شروط اي تسوية رئاسية شاملة ولعل زيارة السفير البخاري الى الرئيس بري بعيد الاعلان عن الاتفاق، ثم الى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والى غيرهما، ما يؤشر الى عودة الحراك الرئاسي من خلال البناء على المناخ العام الذي تسبب به الاتفاق. وان كانت الرعاية الصينية له لم تريح الاميركيين كثيرا. والملفت في هذا الاطار حرص مصادر معينة على ضخ معلومات بغزارة عن ان السفير البخاري اوصل في لقاءاته رسالة سعودية واضحة برفض ترشيح فرنجية، فيما عكس الرئيس بري في لقائه الاعلامي الاخير اجواء لا توحي بان ورقة فرنجية الرئاسية قد طويت، في وقت لم يصدر من الجانب السعودي اي نفي او تأكيد لما سرب حول رسالة البخاري الى بري وجنبلاط والبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي. وكان لافتا ايضا مسارعة مراجع قريبة من السفارة السعودية الى نفي ما تردد بقوة عن مفاوضات جارية خارج لبنان لتسوية قوامها فرنجية رئيسا للجمهورية والسفير نواف سلام رئيسا للحكومة.
في اي حال، قد يكون من المبكر الجزم بما ستكون عليه تداعيات الاتفاق السعودي- الايراني بالرعاية الصينية، على المسار الرئاسي في لبنان وستبقى بوصلة التحليلات تتجه حينا لمصلحة فرنجية، واحيانا ضده، وفي رأي ثالث ان فرنجية والنائب ميشال معوض قد يكونا ضحيتي هذا الاتفاق لصالح مرشح التسوية، ما يعني عمليا ان الملف الرئاسي لم يحن اوانه بعد لذلك تتريث مراجع مطلعة في الافراط في التفاؤل حول ترجمة هذا الاتفاق لبنانيا، من دون ان تستبعد صعوبة هذه الترجمة من دون موافقة الاميركيين، اذ انه من الصعب تصور انتخابات رئاسية من دون غطاء اميركي، ولان الاتفاق الاقليمي قد تم من دون رضى واشنطن، فانه من المستحيل التكهن كيف يمكن ان يمر اي اتفاق مماثل بعيدا من تأثيراتها. وتتخوف مصادر ديبلوماسية من ان تقف واشنطن بالمرصاد لكل مفاعيل الاتفاق، من الصين الى منطقة الشرق الاوسط ولبنان ضمنا، وهذا من شأنه ان يثير المخاوف من محاولات عرقلة ترتيبات تسوية في لبنان، الامر الذي قد يجعله ساحة تجاذبات اميركية- ايرانية- سعودية، ومثل هذا الامر لن يكون سهلا على المعارضة لانه يضعها امام خيارات حساسة في المفاضلة بين تأثيرات واشنطن وارادة السعودية وخياراتها الاقليمية ومخاوف من انعكاس ذلك عودة التوتر الامني ومفاعيله في ساحة كانت واشنطن، ولا تزال ترعى استقرارها!.