لا يختلف اثنان في لبنان، وربما في خارجه ايضا، على ان ما يجري كل يوم خميس منذ اسابيع في مجلس النواب في ساحة النجمة، هو " مهزلة " مكتملة الاوصاف مهما قيل على عكس ذلك، او مهما صدر من تبريرات غير منطقية ولا ترتكز على اي قاعدة عقلانية. صحيح انها اللعبة الديموقراطية في نظام برلماني ديموقراطي كالذي اعتمده لبنان، لكن الصحيح ان ما يرافق كل جلسة من نقاش حول الغالبية المطلوبة في الدورة الثانية من الاقتراع هو في حد ذاته من ابرز مفاعيل هذه " المهزلة" والمتوقع ان تستمر الى ان يتم الاتفاق على مرشح رئاسي يحظى بموافقة القوى الاساسية في المجلس النيابي القادرة على تأمين نصاب الثلثين، اي 86 صوتا، في كل الدورات الانتخابية، وهذا يعني عمليا انتقال كتلة نيابية او اكثر من ضفة الى اخرى لضمان بقاء عدد النواب الحاضرين 86 نائبا وما فوق بصرف النظر عما سيحصل عليه المرشح الفائز من اصوات سواء بالاكثرية المطلقة اي 65 نائبا او اكثر من ذلك، والمهم الا يقل العدد عن نصف اعضاء مجلس النواب الـــــ 128، زائدا واحدا. والمؤسف في الجدال الذي يقوم في كل جلسة انتخابية حول الاكثرية الواجب توافرها لاستمرار النصاب، ان غالبية الاصوات التي ترتفع منادية بان المادة 94 من الدستور غير واضحة لجهة عدد الحاضرين، بل تتحدث عن عدد الاصوات التي ينالها المرشح، هي اصوات نواب مسيحيين يتقدمهم رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل ويدعمه ولو بصورة غير علانية، المرشح الرئاسي النائب ميشال معوض، وانضم الى الاثنين مؤخرا نواب من كتلة " التغييريين" بقيادة نقيب المحامين السابق النائب الحالي ملحم خلف الذي يفترض ان يعي السبب الحقيقي لتمسك الرئيس نبيه بري وغيره من رؤساء الكتل والنواب بغالبية الثلثين في الحضور والاقتراع في كل الدورات الانتخابية، بصرف النظر مما يؤول اليه عدد الاصوات في الدورة الثانية وما يمكن ان يليها.
البطريرك صفير حسم الجدل: نصاب ميثاقي
وفي هذا السياق سعى الرئيس بري اكثر من مرة الى التأكيد على ان غالبية الثلثين ستعتمد ولا مجال لاي نقاش فيها لاسباب ميثاقية ولا مجال لاي تغيير مهما كانت الحجج والاسباب والاجتهادات ونظريات البعض. ويبقى السؤال لماذا يتجاهل بعض النواب البعد الميثاقي للعدد 86 كاساس للنصاب، مع علمهم اليقين باسبابه، الامر الذي يدفع الى الشك بنوايا هؤلاء النواب لجهة تعمدهم اثارة الموضوع نفسه في كل جلسة تحت مسميات مختلفة او من خلال اقتراحات " ملغومة" من مثل ضرورة تفسير المادة 49 من الدستور وغيرها من الاقتراحات. ويرى مصدر نيابي رفيع ان التمسك بغالبية الثلثين ليس جديدا في تاريخ الانتخابات الرئاسية منذ ايام الانتداب، لكنه ليس جديدا في تاريخ الانتخابات الرئاسية منذ ايام الانتداب، لكنه اكتسب في تاريخ لبنان الحديث، بعدا وطنيا يفترض بالنواب المسيحيين ان يتمسكوا به قبل غيرهم لان الموقع الرئاسي الاول هو للموارنة وفقا للعرف المعتمد منذ العام 1943 وحتى اليوم، اضافة الى ما يمثله رئيس الدولة من رمزية كونه يعكس وحدة البلاد ويقسم، وحده من دون غيره اليمين القانونية. ولم يكن من باب الصدفة ان يستشهد الرئيس بري ردا على النائب سامي الجميل، بموقف البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير ليدعم موقفه من ضرورة توافر غالبية الثلثين، ذلك ان هذه المسألة سبق ان اثيرت عندما كان النائب والوزير الراحل نسيب لحود ابرز المرشحين للانتخابات الرئاسية بدعم من قوى " 14 آذار" في حينه التي لم تستطع تأمين حضور غالبية الثلثين، فارتفعت الاصوات تنادي بضرورة الاكتفاء بالاكثرية المطلقة في الدورة الاقتراعية الثانية، وانطلقت في حينه موجة واسعة من التفسيرات للدستور( لاسيما المادة 49 منه) وكتب الكثير وعقدت حلقات " التوك شو" على شاشات التلفزة.... من دون ان تعطي اي نتيجة لاسيما بعدمـــــا حسم البطريرك صفير المسألة بعملية حسابية بسيطة ( كررها الرئيس بري مؤخرا) خلاصتها انه في حال اعتمد النصاب في الاكثرية المطلقة للدورة الثانية، اي 65 نائبا، فان الرئيس يمكن ان يفوز بالاكثرية المطلقة من الــــ 65 نائبا، اي بالنصف زائدا واحدا، اي بـــ 33 صوتا. ويومها اضاف البطريرك الراحل امام نواب راجعوه في بكركي مطالبينه بتأييد خيار الاكثرية المطلقة بان مجلس النواب بعد الطائف يتألف من 128 نائبا، نصفهم من المسلمين والنصف الاخر من المسيحيين، اي 64 نائبا مسيحيا و 64 نائبا مسلما، فماذا لو اتفق النواب المسلمون مع نائب مسيحي او اكثر وامنوا نصاب الـــ 65 نائبا وانتخبوا رئيس جمهورية لا يريده النواب المسيحيون فما الذي يحصل في البلاد... او ايضا ماذا لو حصل العكس، واتفق المسيحيون مع نائب مسلم او اكثر وانتخبوا رئيسا لا يريده المسلمون.... بكل بساطة، اضاف يومها البطريرك الراحل الذي يوصف بــ " بطريرك الاستقلال الثاني"، فان الوحدة القائمة بين المسسيحيين والمسلمين المكرسة بموجب الميثاق الوطني والمؤكدة في اتفاق الطائف، ستضرب في الصميم وهذا يعني- كما قال البطريرك صفير يومها- فان صيغة العيش المشترك التي طالما ميزت لبنان واللبنانيين ستسقط ومعها يسقط لبنان وتقوم فيه نزاعات لن يكون من السهل وقفها. وذكر البطريرك مراجعيه، في حينه، بانه ارتضى باتفاق الطائف لاسيما في البنود التي نقلت بعض صلاحيات رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء، حفاظا على الوحدة الوطنية وليبقى لبنان وطن الشراكة كما يريده العالم اجمع ما عدا اسرائيل، علما ان التوازن الوطني هو توازن توافقي تكرس في مؤتمر الطائف من خلال اعتماد المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، فيما الواقع هو غير ذلك تماما. ويضيف احد الذين حضروا اللقاء في بكركي آنذاك ان البطريرك صفير، انهى كلامه بدعوة النواب الحاضرين الى النظر الى مسألة نصاب الثلثين لجلسات الانتخابات من منظار وطني اولا ثم مسيحي ثانيا وعدم الغرق في شعارات لا تصبح في الحياة السياسية اللبنانية، مكررا ان لديه ملاحظات عدة على بعض ما جاء في في اتفاق الطائف يمكن العمل على تعديلها بالاتفاق والتفاهم، لكن في مسألة نصاب الاستحقاق الرئاسي لا داعي " للتذاكي"... قال البطريرك صفير كلمته ووقف وسط الصالون الكبير وسأل االنواب: " بعد في شيء؟ فساد " صمت عظيم" وانتهى اللقاء.
هكذا انتخب رؤساء رؤساء لبنان بغالبية الثلثين
وتقول مصادر نيابية في معرض استذكارها هذه الوقائع، ان مسألة نصاب الثلثين يجب ان تخرج من التداول في كل جلسة، الا اذا اصر بعض النواب ولاسيما منهم نواب الكتائب مع بعض " التغييريين" على اثارة هذه المسألة مجددا على قاعدة " خالف تعرف".. مع علمهم اليقين بان نصاب الثلثين اعتمد منذ انتخاب اول رئيس للجمهورية اللبنانية في العام 1926 وحتى آخر انتخاب في العام 2016. وتظهر العودة الى التاريخ، الوقائع الاتية:
-انتخب الرئيس شارل دباس من قبل مجلسي النواب والشيوخ الذين عقدوا مجمعا نيابيا بجميع أعضائهما الـ46 في 6 أيار (مايو)1926 وكان رئيس المجمع رئيس مجلس الشيوخ الشيخ محمد الجسر وانتخبوا بالإجماع الأرثوذكسي شارل دباس رئيسا للجمهورية لمدة ثلاث سنوات.
-أما الرئيس الثاني الذي تم انتخابه في عهد الانتداب الفرنسي في 20 كانون الثاني (يناير)1936، فكان الرئيس إميل إده الذي انتخبه مجلس النواب (من 30 كانون الثاني(يناير) 1934 - 5 حزيران(يونيو 1937) المؤلف من 25 عضوا (18 بالانتخاب و7 بالتعيين)، فنال إدّه في الدورة الأولى 13 صوتا مقابل 12 لبشارة الخوري، فأعيد الانتخاب مرة ثانية فنال إدّه 14 صوتا، مقابل 11 للخوري، وكان الصوت الـ14 لإدّه من كميل شمعون عضو الكتلة الدستورية التي يرأسها بشارة الخوري.
-أما الرؤساء الأربعة الآخرين في عهد الانتداب الفرنسي فتم تنصيبهم بالتعيين وهم: حبيب باشا السعد، ألفريد نقاش، أيوب تابت، وبترو طراد.
-أما في زمن الاستقلال، فقد كان عدد أعضاء مجلس النواب المنتخب في زمن الانتداب 55 عضوا وبدأت ولايته في 21 أيلول(سبتمبر) 1943، حيث اجتمع المجلس برئاسة أكبر الأعضاء سنّا، وكان النائب جورج زوين، وانتخب أولا رئيس المجلس النيابي فكان نائب البقاع صبري حمادة، الذي باشر على الفور عملية الاقتراع لرئيس الجمهورية، فكانت النتيجة على النحو الآتي:المقترعون 47 نائبا، 44 منهم أيّدوا الرئيس بشارة الخوري، ووجدت ثلاث أوراق بيضاء، كما غاب عن هذه الجلسة النواب: إميل إده، كمال جنبلاط، أسعد البستاني، جورج عقل، عبد الغني الخطيب، جميل تلحوق، وأيوب تابت.
- وفي 9 نيسان(ابريل ) 1948 تم التوقيع من قبل 46 نائبا من أصل 55 نائبا للتجديد للرئيس بشارة الخوري الذي اضطر الى الاستقالة قبل 3 أيام من منتصف ولايته المجددة.
- وفي 23 أيلول(سبتمبر) 1952 كانت جلسة انتخاب الرئيس الاستقلالي الثاني كميل شمعون، وكان عدد أعضاء المجلس النيابي قد أصبح 77 نائبا، فحضر الجلسة 76 نائبا، فانتخب شمعون 74 نائبا ووجدت ورقة بيضاء وورقة باسم عبدالله الحاج.
- في 4 آب 1958(أغسطس) تم انتخاب اللواء فؤاد شهاب من قبل مجلس النواب الذي صار عدد أعضائه 66 نائبا، حضر منهم 56 نائبا، فانتخب شهاب بأكثرية 48 نائبا ووجدت ورقة بيضاء وسبع أوراق باسم ريمون إدّه.
- وفي 18 آب(أغسطس) 1964 انتخب الرئيس شارل حلو بحضور جميع أعضاء المجلس النيابي الـ99، نال منها الرئيس حلو 92 صوتا ووجدت ورقتان بيضاوان وخمس أوراق بإسم بيار الجميل.
- ويوم الإثنين في 17 آب(أغسطس) 1970 تم انتخاب الرئيس سليمان فرنجية في دورة اقتراع ثانية بأغلبية 50 صوتا مقابل 49 صوتا لإلياس سركيس.
- وفي جلسة انتخاب الرئيس إلياس سركيس التي عقدت في قصر منصور في 8 أيار(مايو) 1976 كان عدد أعضاء المجلس النيابي قد أصبح 97 نائبا بعد وفاة نائبين، حضر منهم 68 نائبا، فنال سركيس في الدورة الأولى 63 صوتا ووجدت 5 أوراق بيضاء، ونال في الدورة الثانية 66 صوتا.
- في العام 1982 طلب حزب الكتائب و"القوات اللبنانية" فتوى من أحد الفقهاء الفرنسيين في القانون الدستوري بشأن انتخاب بشير الجميل، فأكد على نصاب الثلثين من أعضاء المجلس النيابي قانونا، أي 66 نائبا، على اعتبار أن المجلس النيابي كان قبل الطائف يتألف من 99 نائبا. لكن الرئيس كامل الأسعد وهيئة مكتب المجلس افتوا آنئذ بثلثي أعضاء المجلس النيابي الأحياء، وبالتالي فإن النصاب كان في تلك الجلسة 62 نائبا، لأن المجلس النيابي كان قد فَقدَ سبعة نواب بالوفاة. وقاطع هذه الجلسة 30 نائبا كانوا يخططون لحشد 31 نائبا ليطيّروا النصاب لكنهم عجزوا عن ذلك، وبقي ينقصهم نائب واحد فقط لإنجاز ما خططوا له.
- بعد اغتيال بشير الجميل، انتخب النائب أمين الجميل بحضور 80 نائبا من أصل 90 نائبا أحياء، فنال الجميل 77 صوتا ووجدت 3 أوراق بيضاء.
وهكذا في كل جلسات انتخاب رؤساء لبنان بعد الطائف: إلياس الهراوي، اميل لحود، ميشال سليمان، وميشال عون. كان النصاب المطلوب والمؤمن ثلثي عدد اعضاء المجلس في كل الدورات!.