لم يكن مستغربا ما قاله رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يوم الجمعة الماضي لجهة ضرورة الاتفاق الداخلي كمسار انقاذي وتأكيده ان لبنان امام ثلاثة خيارات: اما الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، واما ان نتفق مع بعضنا البعض، واما الا نتفق بتاتا، وبات واضحا اننا اخترنا الخيار الاسوأ وهو الا نتفق بتاتا. ومرد عدم الاستغراب ان الرئيس ميقاتي قال هذا الكلام بعد ساعات قليلة من اختتام وفد صندوق النقد الدولي لقاءاته في بيروت والتي شملت رئيس الحكومة وكبار المسؤولين في القطاعين العام والخاص اضافة الى مرجعيات اقتصادية، وكانت خلاصة هذه اللقاءات صادمة للبنانيين حين اطلق رئيس الوفد" ارنستو ريغو رامبريز" سلسلة تحذيرات من مخاطر استمرار حالة التراخي وعدم الالتزام بخطوات واجراءات اصلاحية علاجية تخرج البلاد من ازمتها، لا بل اكثر من ذلك قال رئيس الوفد ان لبنان في وضع خطير جدا وان تقدم الاصلاحات يسير بوتيرة بطيئة بالنظر الى درجة تعقيد الموقف، وبوضوح اكثر قال المسؤول المالي الدولي ان لبنان على مفترق خطير ومن دون اصلاحات سريعة سيكون غارقا في ازمة لا تنتهي ابدا، وستستمر الامكانات الاقتصادية في التراجع ويذهب الاقتصاد الى حالة ركود مع عواقب لا رجعة فيها على الدولة بكاملها.
هذا الموقف الذي صدر بعد انتهاء الاجتماعات سمع اللبنانيون الذين التقوا الوفد، كلاما اكثر خطورة، اذ لمس هؤلاء ومنهم خبراء ماليين ومصرفيين وممثلين لجمعيات من المجتمع الاهلي، ما يمكن وصفه بارتفاع في منسوب القلق وبما يقارب الاحباط لدى بعثة الصندوق في تقييمها لمدى جدية السلطات الرسمية في مقاربة مندرجات الاتفاق الاولي الذي تم ابرامه قبل سنة بحيث طغت لغة " المراوغة" والتذرع بصعوبات الاوضاع الداخلية القائمة على الكثير من الاجابات الرسمية في شأن المضامين والمهل الزمنية المتعلقة بالمندرجات النهائية لخطة التعافي المنشودة وحزمة التشريعات التي التزم الجانب، وعلى اعلى المستويات الرئاسية، ببلورتها وتسريع اقرارها من قبل السلطتين التشريعية والتفيذية وفقا لنص الاتفاق الاولي تمهيدا لعرض اتفاقية البرنامج التمويلي على المجلس التنفيذي للصندوق مقترنا بموافقة الادارة العليا للصندوق. ولقد بدا واضحا وجود تباين في المواصفات التي يعتمدها الجانب اللبناني ازاء اصرار بعثة الصندوق على اعادة تعويل قانون السرية المصرفية لمعالجة مواطن الضعف الحساسة القائمة التي لا تزال مستمرة على الرغم من التحسينات المهمة التي ادخلت بموجب عملية الاصلاح السابقة. وكذلك بالنسبة الى التعديلات القانونية التي تتيح للجهات المعنية الاطلاع على البيانات المتعلقة بمعاملات الافراد وودائعهم المصرفية. وبرز التباين ايضا في المنهجية المطلوبة لتحديث الاطار القانوني والمؤسسي في المصرف المركزي وهيئات الرقابة المصرفية الاخرى من اجل تقوية الحوكمة والمساءلة، ونشر عملية التدقيق الخاصة لاوضاع مصرف لبنان بغية زيادة درجة الشفافية.
نقاط الخلاف بين لبنان والصندوق
ولخص احد الذين التقوا اعضاء بعثة صندوق النقد الدولي، نقاط التباين بالاتي:
- صعوبة الاستجابة اللبنانية المنشودة على مستوى السلطات لمعظم المطالب الواردة باعتبار انها لا تراعي الخصوصيات اللبنانية لاسيما لجهة اعادة النظر بقانون تعديلات السرية المصرفيــــة وبمشروع قانـــــون وضع ضوابط على السحوبـــــات والتحويلات ( الكابيتال كونترول) فضلا عن طلب صرف النظر عن " قدسية" الودائع ومساهمة موارد الدولة في معالجة فجوة الخسائر.
- وعد الوفد بالتزام الصندوق بدعم لبنان، لكن هذا الدعم سيتوقف ايضا على التزام لبنان ومثابرته تنفيذ برنامج الاصلاح الشامل والطموح.
- مطالبة الوفد بالتزام السلطات بالعمل مع الصندوق والشركاء الدوليين الاخرين من اجل تنفيذ السياسات الرامية الى معالجة التحديات الراهنة ووضع الاقتصاد اللبناني على مسار مستدام بما في ذلك عن طريق برنامج اقتصادي يدعمه الصندوق.
- دعوة الوفد السلطات اللبنانية بتنفيذ استراتيجية مالية متوسطة الاجل لاستعادة القدرة على ابقاء الدين في حدود مستدامة، وخلق حيز لزيارة الانفاق الاجتماعي والانمائي.
- مطالبة وفد الصندوق باعتماد موازنة 2023 لسعر صرف السوق الموحدة للاغراض الجمركية والضريبية، وتحقيق تناسق بين ضرائب معينة ومعدل التضخم، واصلاح الادارة العامة.
- ضرورة توفير الموازنة للتمويل اللازم للانفاق العام الضروري، والبدء باصلاحات القطاع العام الحيوية التي ستؤدي الى رفع مستوى الكفاءة.
- النقطة الابرز هي استثناء الصندوق للدولة من اي موجبات مالية حيث طلبت بعثة صندوق النقد الاعتراف بالخسائر الضخمة التي تحملها المصرف المركزي والبنوك التجارية ومعالجتها صراحة مع مراعاة التسلسل الهرمي للمطالبات وحماية صغار المودعين والحد من اللجوء الى القطاع العام نظرا لمركز مديونيته الحالي غير القادر على الاستمرار. كذلك ينبغي اعادة هيكلة المصارف التي تمتلك مقومات البقاء واعادة رسملتها ضمن خطة محددة الوقت.
- المطالبة بتوحيد اسعار الصرف وتشديد السياسة النقدية لاعادة بناء المصداقية في الاقتصاد وتحسين مركزه الخارجي، فالبعثة رأت ان من شأن توحيد اسعار الصرف ان يلغي التشوهات الضارة ويضع حدا لفرص تحقيق الربح ويخفض الضغوط على احتياطات النقد الاجنبي لدى مصرف لبنان ويمهد الطريق امام سعر الصرف الذي تحدده قوى السوق.
ستفقدون كل شيء
ولاحظت مصادر متابعة ان ملاحظات بعثة الصندوق لم تحظ باي ردة فعل على المستوى الرسمي، ذلك ان من في السلطة يدرك هذا الواقع حتى ان البعض منهم يعمل او يشارك بقصد او غير قصد في الوصول اليه وتسريع خطواته انطلاقا من قناعة بدأت تترسخ لدى الكثيرين بان لا خروج من هذا الواقع الا بردم كل شيء حتى الصفر تمهيدا للبناء على الانقاض. وفي رأي المصادر نفسها ان ما قاله رئيس واعضاء بعثة صندوق النقد، يشكل عناصر ضغط اضافية وحث للسلطات على المضي في المسار الاصلاحي قبل ان يفوت الاوان ويدخل لبنان نفق الركود. ولعل ما قاله احد افراد البعثة يختصر واقع الحال في لبنان حاليا اذ قال: أنتم تنتظرون معجزة لن تأتي، وتظنون انّ طيراً عجيباً سيحمل لكم مليارات الدولارات. لعلكم لا تقرأون ما يحدث في العالم، ولو فعلتم لأدركتم انّه من الصعب ليس فقط ان تحصلوا على المليارات، بل حتى ملايين الدولارات لن تكون متيسرة بسهولة، وقد نحتاج إلى ان نصلي كي تصلكم، وسط الظروف الصعبة التي تواجه العالم". انتم بحاجة إلى عشرات مليارات الدولارات، في حين انكم لا تفعلون شيئاً جدّياً لاستقطابها بل تحرقون ما تبقّى من ودائع، والخشية من ان يأتي الدور على الذهب أيضاً. ينبغي أن تعرفوا انّ قرشاً واحداً لن يصلكم بلا اتفاق نهائي مع صندوق النقد. لم يعد هناك مال يُرش عليكم كما كان يحصل قبلاً، ومطلوب منكم تطبيق اصلاحات عميقة لتأتيكم المساعدات. نحن لا نتدخل في الشؤون السياسية الداخلية، لكن لا يصح تحميل السياسيين لوحدهم المسؤولية عن الوضع الحالي، "إذ انّ الشعب خرج لتوه من الانتخابات النيابية وأعاد اختيار السياسيين أنفسهم، وبالتالي عليه ان يتحمّل تبعات خياراته. هذا البلد الجميل سيفقد قريبا السيطرة على كل شيء اذا لم يتم البدء فورا في تطبيق الاصلاحات المعروفة. نحن سيذهب كل منا الى بلده ومكتبه ونعود في ايلول المقبل اذا بقيتم واقفين على اقدامكم، ولكن حتى ذلك الحين انتم من يجدر بكم تحمل مسؤولياتكم حتى يصبح الانقاذ ممكنا"!.