في بلد تتهاوى فيه المؤسسات الواحدة تلو الاخرى، ليس بمستغرب ان تواجه السلطة القضائية بعضها بالبعض الاخر، وان يتجادل احد القضاة مع قاض آخر او قاضية اخرى، وان تقف السلطة القضائية عاجزة- عن قصد او غير قصد- عن حسم مثل هذه الخلافات، فتتمدد من محكمة الى اخرى، ومن قاض الى آخر. هذه الصورة القاتمة للواقع القضائي تتكرر يوما بعد يوم، وآخر فصولها قبل ايام، كان القرار الذي اتخذه المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات بوقف الاجراءات التي اتخذتها المدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون ضد المصارف اللبنانية وهي اجراءات هددت القطاع المصرفي بكامله ووضعته في حالة خطرة جدا قياسا الى علاقات المصارف اللبنانية مع المصارف المراسلة في الخارج، لاسيما وان من بين التهم الموجهة الى المصارف، تبييض الاموال الامر الذي يوقع المصارف اللبنانية تحت عقوبات دولية ليس اقلها قطع العلاقة التبادلية بينها وبين المصارف في الخارج لاسيما منها المصارف الاميركية الكبرى التي باتت قليلة جدا في التعامل مع القطاع المصرفي اللبناني. واللافت في هذا الاطار ان قرار القاضي عويدات انطلق من تحديد الاطر القانونية للتحقيق مع المصارف والسياق الذي تتحرك فيه الدعوى العامة خصوصا من دون المساس بالمعلومات الشخصية العائدة للموظفين والمودعين وبما يحول دون تعريض اي شخص للتعسف القانوني. وشدد القاضي عويدات على مراجعته في الجرائم الخطيرة ، فيما طلب من القاضية عون وقف كافة التحقيقات التي تجريها مع المصارف الى حين البت بدعاوى الرد والمخاصمة المقامة بحقها.
لقد بدا من خلال قرار عويدات ان الامر هدفه " تصفية حسابات" بين المدعي العام التمييزي والقاضية عون، في وقت اتضح لاحقا ان اجراء عويدات شكل حلا قضائيا للملاحقات التي اجرتها عون بحق كبار المصارف في لبنان والتي ادخلت القطاع المصرفي في اضراب استغرق ثلاثة اسابيع ولم يعلق الا بعد صدور قرار عويدات الذي شكل ايضا مخرجا للجدل الذي نشأ حول المذكرة التي اصدرها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والتي كلف بموجبها وزير الداخلية بسام مولوي ( وهو قاض ايضا) الايعاز الى الاجهزة الامنية بالامتناع عن تنفيذ المذكرات التي تصدرها عون بحق المصارف. علما ان مجلس القضاء الاعلى الذي اجتمع جزئيا كان طالب رئيس الحكومة بالعودة عن طلبه هذا معتبرا انه تدخل في شؤون السلطة القضائية ومناقض لمبدأ الفصل بين السلطات. والتقت مصادر متابعة على القول بان خلاف عويدات- عون تمخض عن تسوية سياسية قضائية لهذا الملف الشائك، الامر الذي اعتبره عويدات " حماية للقضاء من التدخلات السياسية وتصويبا لبوصلة الملاحقات التي خرجت في احيان كثيرة من طابعها القانوني لجهة تبيان ما اذا كانت المصارف ارتكبت فعلا الجرائم المدعى اليها بها وهي تبييض الاموال والاختلاس من اموال المودعين. ونقل عن القاضي عويدات ان قراراته ستقود الى انتظام العمل القضائي ما يعني انها- اي قرارات عويدات- لم توقف التحقيق في ملف المصارف، بل وضعته في سياق قانوني وتحت اشراف ومراقبة النيابة العامة التمييزية خصوصا عندما يتناول الادعاء جرائم خطيرة من شأنها ان تضرب الثقة بالقطاع المصرفي وتعرضه للخطر. ولم يتأخر الرئيس ميقاتي في ابداء " ارتياحه" للخطوة التي اتخذها عويدات " لجهة تنظيم آلية تطبيق احكام قانون السرية المصرفية المعدل"، معتبر انها تشكل خطوة اساسية على صعيد معالجة الخلل القضائي الذي حتم عليه توجيه كتاب الى وزير الداخلية بهدف وقف مسار خطير في استخدام القضاء والقانون لتصفية حسابات سياسية ولم يكن القصد منه حماية احد او تأمين الغطاء لمخالفات احد.
هل يطوى ملف التحقيق مع المصارف؟
وفيما تفاوتت ردود الفعل على قرارات عويدات بين مرحب ومتحفظ ورافض، بدا ان ثمة اجواء جديدة سوف تطبع العمل القضائي في الاتي من الايام بهدف " اعادة تصويب البوصلة" لاسيما في دور النيابة العامة التمييزية والعلاقة مع المدعين العامين في المحافظات، لاسيما مع القاضية عون التي " وان لم تكن سعيدة" بقرارات عويدات ، لكنها آثرت التعاطي معها من الناحية القانونية فقصدت مكتب المدعي العام التمييزي وسلمته خلال خمس دقائق دراسة قانونية معاكسة للقرارات التي اصدرها في حقها، لكن عويدات رد عليها بانه لم يطالبها الا بتنفيذ القانون الذي يقول بوجوب توقف القاضي عن بت بالدعوى المقدمة امامه الى حين البت بالدعوى الاساسية امام الهيئة العامة لمحكمة التمييز التي تحول ضغوطات سياسية دون تشكيلها حتى الان حيث يقول قضاة ان مرسوم تشكيل الهيئة " محتجز" لدى وزير المال يوسف الخليل بطلب من الرئيس نبيه بري. لم ترد القاضية عون على موقف القاضي عويدات في العلن وان كانت ابدت امتعاضها من المنحى الذي يسلكه موقف عويدات، في وقت شرحت مصادر قضائية ما قصده عويدات في قوله بوجوب توقف القاضي عن البت بالدعوى المقدمة امامه الى حين بت الهيئة العامة لمحكمة التمييز بطلبات الرد او المخاصمة المقدمة ضده.
وقالت هذه المصادر انّ المادة 751 من اصول المحاكمات المدنية واضحة، وتنص على عدم جواز القيام بأي عمل من اعمال وظيفية يتعلق بالمدّعي لمجرد تقديم الاستحضار لمخاصمة الدولة، بغض النظر عن تشكيل الهيئة العامة او عدمه، فلا يعود لها التذرّع بهذا الامر للسبب المبيّن اعلاه. مع الاشارة إلى انّ عون غير مختصمة في الدعوى حتى الآن، بل الدولة اللبنانية، وبالتالي لا حاجة لإبلاغها.واضافت المصادر: «نحن لم نوقف القاضية عون عن العمل ولا نمنعها من ملاحقة المصارف، إذا يجيز لها القانون الملاحقة فلتلاحق، والمصرف المرتكب فليتحمّل المسؤولية، بل انّ هدف النائب العام التمييزي هو تمكين الأفرقاء في الدعوى، الذين تقدّموا بمراجعة امام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، بمسؤولية الدولة عن اعمال القضاة او في طلبات الردّ بحق عون للارتياب المشروع امام محكمة الاستئناف في بعبدا، ان يلاقوا الجواب. فلا يمكن للقاضي منع الهيئات العليا من ان تتخذ قرارات في حقها، وذلك بعدم تبلّغها اوراق الدعوى او تذرّعها بأنّها لا تتوقف عن النظر في الدعاوى إلى حين البت بدعوى "المسؤولية".واكّدت المصادر، انّ الهيئة العامة موجودة في استمرار. أما بالنسبة الى اكتمال تعيين اعضائها او رؤساء التمييز، فإنّ الامر شأن آخر لا علاقة لعون به... وبالنسبة إلى دعوى "المسؤولية" فليس من واجباتها، اي عون، ان تتبلّغ، بل عليها ان تتوقف عن النظر في الدعاوى المتعلقة بالمدّعي، اي مقدّم المراجعة، وبالتالي فإنّ المدّعي العام التمييزي لم يوقفها عن الدعوى ولم يأخذ طرفاً مع أي جهة سواء معها او مع المصارف، بل على الهيئات العليا الاستئنافية والتمييزية ان تقرّر، وعون بتصرفها تمنع الهيئات العليا من البت.
في اي حال، من الواضح ان مسار التحقيقات في ملف المصارف سوف يقفل بقرار سياسي، كما كان فتح بغطاء سياسي ايضا، ولن يكون من السهل الحديث باستمرار عن "استقلالية" السلطة القضائية لان الوقائع تدل على عكس ذلك. ولا شك ان مجلس القضاء الاعلى ورئيسه القاضي سهيل عبود يتحملان المسؤولية الكبرى عما آل اليه وضع القضاء في لبنان خلال الاعوام الثلاثة الاخيرة، والذي ازداد تدهورا خلال الاشهر الستة الماضية ما يعني ان الدعوات الى مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين لن يجدوا من يحاسب هؤلاء سواء ان حَكَم عليهم او حكم لهم!.