عندما تسلم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الاسبوع الماضي اوراق اعتماد السفير البابوي الجديد في لبنان المونسنيور" باولو بورجيا" خلفا للمونسنيور" جوزف سبيتري"- وهو آخر سفير يتسلم الرئيس عون اوراق اعتماده قبل انتهاء ولايته الرئاسية- قال له رئيس الجمهورية ان مهمته لن تكون صعبة لانه يعرف لبنان جيدا اذ سبق ان عمل مستشارا اول في السفارة البابوية في لبنان الى جانب السفير البابوي السابق المونسنيور" غبريال كاتشا "من العام 2010حتى 2013 ( اصبح الان سفيرا بابويا في الامم المتحدة) وذلك في فترة شهدت التأزم السياسي الكبير مع اندلاع شرارة " الربيع العربي" ودخول لبنان في نفق الازمات التي لم تنته.... من هنا يأتي اختيار" البابا فرنسيس" للمونسنيور "بورجيا "كإشارة واضحة للتوجه الفاتيكاني حيال الوضع في لبنان الذي لم يتمكن من زيارته كما كان مقررا في شهر ايار ( مايو) الماضي لاسباب صحية طارئة. ذلك ان " الديبلوماسي البابوي" الجديد الذي اختير بعناية له مدلولاته، وهو الايطالي الذي يعرف مثل مواطنيه الايطاليين، اكثر من غيره طبيعة لبنان وتركيبته الطائفية فضلا عن المامه ببنية الطائفة المارونية وتوجهات ابنائها. وفي هذا السياق، يقول متابعون للاهتمام البابوي بلبنان، انه من الصعب جدا على أي دبلوماسي الإنتقال من منصب رفيع كالمنصب كالذي كان يشغله باولو بورجيا في الحاضرة الفاتيكانية (عمل في قسمي العلاقات مع الدول والعلاقات العامة التابعين لأمانة سر الدولة) التي يعتبر من أهم دبلوماسييها و"عقولها» إلى الوحول اللبنانية، لكن المرحلة تتطلّب التحدي، لذلك كان قرار البابا فرنسيس واضحاً بأن لبنان يحتاج سفيراً استثنائياً، وظيفته متابعة الإستحقاق الرئاسي قبل انقضاء مهلة الإنتخاب والدخول في مرحلة الشغور، من ثم مواكبة تداعيات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع اللبنانيين، وبينهم المسيحيون إلى الهجرة بكثافة، ومتابعة أوضاع المسيحيين والدعوة للإصلاح في الكنيسة والرهبانيات كلّها. وهو دخل القسم الدبلوماسي التابع للكرسي الرسولي في الأول من كانون الأول(ديسمبر) 2001، وتقلب في مناصب عدة في ممثليات وسفارات الكرسي الرسولي لدى كل من: أفريقيا الوسطى، والمكسيك، والأراضي المقدسة، وقبرص ولبنان. وقد ساد الإرتياح في بكركي جرّاء تعيين السفير الجديد، فالرجل صاحب سيرة مميزة ومشرقة، يعمل دون كلل أو ملل، يصل ليله بنهاره. لا ينام. يقلّ من الكلام. يتابع ملفاته بعناية كبيرة. يُصغي جيداً ويستمع إلى الكثير من الآراء ومهتم بوحدة اللبنانيين والمسيحيين. وأكثر من يعرفه هو البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي يحمل راية المواجهة في هذا الزمن الصعب. وللصدفة أن المدة التي قضاها بورجيا في لبنان ترافقت مع الإنتقال الذي شهدته الكنيسة المارونية بعد تنحّي البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير وانتخاب الراعي خلفاً له.
وعايش" بورجيا "مرحلة محاولات جمع المسيحيين ضمن لجان في بكركي، من لجنة الأرض إلى التربية والديموغرافيا وقانون الإنتخاب، والأهم عايش إجتماعات القادة الموارنة في بكركي والذين حصروا الترشيحات بهم على قاعدة إنتخاب «الرئيس القوي". وغادر بورجيا لبنان عام 2013 أي قبل عام من الدخول في الفراغ الرئاسي في أيار(مايو) 2014 وقبل 3 سنوات من انتخاب الرئيس "القوي"، أي العماد ميشال عون، وعاد قبل 10 أيام من إنتهاء ولاية الرئيس القوي ليشهد على "الجهنم" التي تشهدها البلاد بفعل العتمة والإنهيار الإقتصادي وإفلاس المصارف وضرب المؤسسات وتفلت السلاح، وبالتالي لن تكون مهمة بورجيا، الرجل المعروف عنه النضال وعدم اليأس، سهلة. فـ"البابا" إختاره ليقف إلى جانب الشعب الذي يعاني الإنهيار، وكذلك ليؤكد أنّ دولة الفاتيكان تعارض المسّ بصيغة العيش المشترك ووثيقة الطائف التي تنص على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين وحفظ دور لبنان، وللتشديد على أن الدور المسيحي يجب أن يُصان عبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية وانتظام عمل المؤسسات وعدم تغيير وجه لبنان الحضاري. ومن جهة أخرى، أمام السفير الجديد ورشة عمل داخلية. فمعروف أن الرهبانيات الحبرية تتبع مباشرةً الفاتيكان، لذلك فإن العمل سيكون لأنسنتها ووقوفها إلى جانب الرعايا ومنع إنهيارها لأنه إذا إنهارت تلك المؤسسات على اختلاف أشكالها فقدَ المسيحيون ومعهم لبنان دورهم التاريخي.
الفاتيكان قلق من هجرة المسيحيين
وتقول مصادر متابعة ان تعيين المونسنيور" بورجيا "يؤكد ان الاهتمام الفاتيكاني بالاوضاع في لبنان سيتعزز اكثر فاكثر لاسباب عدة لعل ابرزها قناعة الكرسي الرسولي بان الحضور المسيحي في لبنان والدور السياسي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي للمسيحيين مهم جدا للحضور المسيحي في الشرق الاوسط، الذي هو بدوره مهم جدا في الحوار بين الاديان والثقافات وبين الغرب والشرق، اضافة الى ان الفاتيكان قلق جدا من موجة هجرة اللبنانيين بسبب الانهيار الحاصل في البلاد، وبخاصة المسيحيين منهم. وما يقلقه اكثر انها هجرة كوادر لها حضورها ودورها في قطاعات التعليم والتربية والصحة والهندسة وغيرها. وهو ما يؤدي الى خسارة هذه القطاعات الكفاءات والخبرات لإعادة بنائها والنهوض بالبلاد. وعلى الرغم من الاهمية التي يوليها الفاتيكان للبنان، فهو لا يتدخل في استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية. لم يفعل ذلك في السابق ولن يفعله اليوم. والسبب انه يتعاطى سياسة الدول انطلاقا من مبادىء وليس سعيا وراء مصالح. والسينودس الخاص بلبنان اكد ان الفاتيكان يتعامل مع لبنان انطلاقا من مبدأ انه رسالة تعايش بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة والعالم. من هنا تؤكد مصادر دبلوماسية وكنسية ان الدبلوماسية الفاتيكانية تتابع عن كثب الوضع اللبناني. وهي قلقة جدا على لبنان ومستقبله. وهي تتابع تطور ملف الرئاسة الاولى، لكنها لن تتدخل مباشرة فيه لعدة اسباب فاتيكانية ولبنانية ودولية تختصرها بالاتي:
- تأثير شخصية "البابا فرنسيس" على طريقة اداء الفاتيكان في لبنان كما في ملفات عالمية اخرى. صحيح ان الفاتيكان دولة لها مؤسساتها وادارتها، لكنها تؤدي دورها تحت سقف " الطاعة الكنسية" للحبر الاعظم. من هنا تأثير شخصية الباب مهم على اداء الفاتيكان. والبابا الحالي، يهتم اولا للانسان الفقير والمريض اكثر من اهتمامه بشؤون الدول الفقيرة والمريضة.
- انزعاج الفاتيكان من وجوه الطبقة السياسية في لبنان، وخاصة المسيحيين منهم. صحيح ان لا مكان لليأس في قلب المؤمن، فكيف في قلب المؤتمن على الايمان الكاثوليكي؟ لكن المسؤولين في الفاتيكان ما عادوا يثقون بهذه الطبقة السياسية وبقدرتها على النهوض بالبلاد وانقاذها وحسن ادارتها، وهم منزعجون جدا من الانقسام العميق بين القادة المسيحيين.
- عدم وجود ارادة دولية جدية لاجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده. فرنسا تريد اجراء الاستحقاق في موعده لكنها عاجزة. والولايات المتحدة الاميركية اعادت لبنان الى موقعه في اسفل سلم اهتماماتها بعد انجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي ارادته من اجل اسرائيل. وهي لا تكثرت لانتخاب رئيس في المهلة الدستورية. اما الدول العربية المؤثرة في لبنان، فتشكو من هيمنة حزب الله على الدولة وليس انتخاب رئيس يساعده على احكام قبضته عليها.
- الفاتيكان يرى ان الرئيس الجديد يجب ان لا يشكل تحديا لاي فريق، بل ان يكون رئيسا يجمع اللبنانيين وقادرا على لعب دوره في انقاذ البلاد من الانهيار. وهذه الصفة " الفاتيكانية" للرئيس العتيد لا تلتقي فيها اليوم مع الدول المعنية بالشأن اللبناني.
في اي حال اليوم في لبنان سفير بابوي جديد هو المونسنيور" باولو بورجيا"يعرف لبنان جيدا. ويعرف الطبقة السياسية عن كثب. ربما سيبرز بادائه دور الفاتيكان واهتمامه بلبنان، لكنه سيبقى دورا هادئا، على وقع دبلوماسية الفاتيكان.