بعد طول انتظار، والكثير من التكهن والتحليلات والتسريبات، قطعت المملكة العربية السعودية الشك باليقين مع عودة سفيرها في بيروت وليد البخاري بعد زيارة تشاور مع المسؤولين السعوديين حاملا موقف المملكة الحاسم من الاستحقاق الرئاسي اللبناني والذي ابلغه الى المسؤولين اللبنانيين وعدد من السياسيين القريبين من المملكة والذين كانوا يروجون لمواقف مغايرة للموقف السعودي الرسمي. باختصار خرج الموقف السعودي من الاطار الذي وضعه حلفاء السعودية في لبنان الذين تناوبوا قبل اسابيع على القول حينا بان الرياض وضعت " فيتو" على رئيس تيار " المردة" سليمان فرنجية، واحيانا بانها تدعم المرشح الفلاني وتسوق له وانها ترفض غيره من المرشحين ولن تساعد لبنان اذا لم يأت هذا المرشح " المدعوم سعوديا" الى قصر بعبدا، وغير ذلك الكثير من " تهبيط الحيطان" الذي لم يعد له اليوم اي مفاعيل او صدى بعدما نقل السفير البخاري الموقف الحاسم الذي توزع على نقاط عدة لعل ابرزها ان لا مصالح للسعودية اليوم في لبنان. فيما للاخير مصالح مع الرياض والخليج عموما. واي رئيس يأتي الى بعبدا بغض النظر عن اسمه وتمثيله سيترتب عليه استرجاع الثقة العربية والخليجية ان كان ينوي انتشال لبنان من ازماته، واستطرادا لا مشكلة سعودية مع اي اسم ما دام ينتهج سياسة حسن الجوار ويتلزم سياسة النأي بالنفس ويضمن الاستقرار للبنان ويمنع تحويل البلاد مجددا الى منصة سياسية وميليشيوية واعلامية ضد دول الخليج الشقيقة، وعلى رأسها السعودية. ويعود للبنانيين وحدهم اختيار رئيسهم العتيد، فالرياض تحترم سيادة الدول وتتعامل معها وفق المصالح المشتركة والمتبادلة. من هنا يترتب على اللبنانيين ورئيسهم المقبل التصرف بالحكمة الضرورية لاستعادة ثقة المجتمع العربي، حتى قبل استعادة ثقة المجتمع الدولي. لن تتدخل السعودية او تضع " فيتو" على اي رئيس، لكنها ستمدد الفيتو على " لبنان – السياسي" لـــ 6 سنوات مقبلة اذا كان الرئيس العتيد امتدادا لسياسة الرئيس ميشال عون الذي تعتبر الرياض انه تصرف وفق اجندة الحزب بعيدا عن مصالح الشعب اللبناني ما جعل لبنان منصة تهديد للجوار العربي والخليجي. باختصار: لا فيتو من الرياض على اي رئيس، بل هناك ترقب سعودي لما سيفعله اي رئيس مقبل لشعبه ولدول الجوار!.
ارتياح وقلق في آن للموقف السعودي
هذا الجو السعودي الذي تبلغته القيادات اللبنانية التي هي على اتصال مع سفير المملكة في بيروت، او مع الرياض مباشرة، مع اضافة مهمة وهي ان المملكة تريد وتحث اللبنانيين على انتخاب رئيس للجمهورية في اقرب وقت ممكن لان في ذلك فائدة لجميع اللبنانيين وهي لا تحبذ ابدا استمرار الفراغ الحاصل باي شكل من الاشكال. وبذلك تكون رسالة الرياض الاضافيه انها لا ترغب في اقحام نفسها في مفردات الترشيح الرئاسية وهي تحاول خصوصا بعد الاتفاق مع ايران ان تكرّس موقفها المعلن بانها على مسافة واحدة من الجميع في مثل هذا الاستحقاق. ويقول احد المسسؤولين الذين التقوا السفير بخاري انه فهم من المضمون الموقف السعودي ان المملكة ليست في وارد عرقلة انتخاب اي مرشح بمن فيهم فرنجية، لكنها في الوقت نفسه لن تمارس اي ضغوط على من هم في خانتها للقبول بانتخاب فرنجية او اي مرشح آخر معتمد بذلك ما يمكن وصفه بــ " الحياد" في شأن حسم الخيار الرئاسي. واللافت ان الموقف السعودي قوبل بردود فعل متناقضة سواء لدى مؤيدي فرنجية او لدى المعارضة وان كان الفريق الاول ( اي مؤيدي فرنجية) بدا مرتاحا للموقف السعودي، فيما ظهرت لدى فريق المعارضة بوادر قلق. وفي هذا السياق تقول اوساط الفريق المؤيد لفرنجية ، ان حرص المملكة على عدم وضع "فيتو" عليه، ينطلق من انها بعد الاتفاق السعودي - الايراني لم تعد متشددة في شرط ضمان الرئيس ارساء افضل العلاقات مع الدول العربية عموما ودول الخليج خصوصا ، لان هذا الشرط اصبح واقعا مضمونا عمليا في ظل الانفراج في العلاقة مع ايران، وفي ظل المناخ المستجد على صعيد الانفتاح العربي – العربي، لاسيما مع سوريا. في حين يرى الفريق المعارض ان الرهان على احداث تغيير دراماتيكي سريع في الموقف السعودي تجاه الاستحقاق الرئاسي اللبناني بعد الاتفاق مع ايران، هو رهان في غير محله ، خصوصا في ظل المعارضة المسيحية القوية لانتخاب فرنجية. وتعتقد اوساط هذا الفريق ان الرياض ليست في وارد ممارسة الضغوط او اتباع سياسة الاملاء على اطراف الفريق المذكور لتعديل موقفهم، والقبول بخيار الفريق الآخر.يتفق الفريقان على ان السعودية لا تحبذ، بل تحذر من استمرار التعطيل والفراغ في لبنان لاعتبارات عديدة ابرزها: ان تفاقم واضطراب الوضع في لبنان قد يؤثر ويحدث ارباكات واشكاليات في المناخات الايجابية المستجدة، اكان على صعيد الانفراج في العلاقة مع ايران ام على صعيد تحسين الاجواء على الساحة العربية مع تنامي الانفتاح مع سوريا صحيح ان السعودية لم تنتقل الى مرحلة ممارسة الضغط على حلفائها في لبنان للسير في التسوية، التي تشتغل عليها فرنسا اي انتخاب فرنجية مقابل إختيار رئيس حكومة، يخلق توازنا سياسيا في العهد المقبل، لكن وقوفها على الحياد بشكل معلن وصريح يترك الباب مفتوحا لنسبة ملحوظة من النواب، لاسيما النواب السنّة لحرية الاختيار، حيث ان نسبة كبيرة منهم تميل لانتخاب فرنجية.
ولان الموقف السعودي هو موقف مؤثر في مسار الاستحقاق الرئاسي، تعتقد مصادر نيابية مطلعة، ان هذا الموقف الرمادي نسبيا يترك الباب مفتوحا للتفسيرات والتكهنات بشأن درجة حسم الخيار او هوية الرئيس المقبل . لكن الدعوة الصريحة لانهاء حالة الفراغ والتعطيل الى جانب معطيات ومواقف اخرى، تبعث على الاعتقاد ان نسبة حظوظ انتخاب الرئيس قبل تموز(يوليو) المقبل، هي نسبة جيدة وربما مرتفعة. وفي هذا المجال ما زال الرئيس نبيه بري على قناعته بانه لن يدعو الى جلسة جديدة لانتخاب الرئيس تكرر مشهد الجلسات السابقة، وينتظر نضوج مناخ جلسة منتجة، ربما تكون في مطلع حزيران (يونيو) المقبل.
هل سقطت المبادرة الرئاسية الفرنسية؟
لقد قرأت اوساط سياسية معنية الموقف السعودي المستجد بانه تطور مهم سيكون له الاثر الفاعل على مسار الاستحقاق الرئاسي لانه اخرج الرياض مما كان يرّوج بانها " تحتضن" فريقا من اللبنانيين ضد فريق آخر وهذا ما حرص السفير بخاري على نفيه في معرض التأكيد على عدم التدخل في الانتخابات لمصلحة هذا الفريق او ذاك، فهي ليست في وارد الطلب الى " القوات اللبنانية" والكتائب والحزب التقدمي الاشتراكي التصويت لهذا المرشح او حجب الاصوات عن ذاك المرشح لانها ترى ان هذه المهمة من مسؤولية اللبنانيين الذين عليهم ان يحسنوا الاختيار ويدركوا اين هي مصلحة بلدهم. وتضيف الاوساط نفسها ان موقف السعودية اسقط عمليا المبادرة الفرنسية لان بعض العاملين على خط هذه المبادرة كان يأمل بان تمارس الرياض يوما ما ضغطا على حلفائها اللبنانيين للقبول بمبادرة السفير" باتريك دوريل " ومساعيه لتمرير انتخاب فرنجية في اقرب وقت ممكن. واستطرادا اخرج الموقف السعودي الملف الرئاسي من مسار التدخلات الخارجية ليعيده خيارا لبنانيا فحسب وللدفع في اتجاه امتناع الفرقاء اللبنانيين بالاتفاق على مرشح بتأييد غالبية القوى السياسية اللبنانية ويكون مؤهلا لدخول قصر بعبدا. وبالتالي فان فشل القوى اللبنانية في الوصول الى هذا الخيار سوف يعني فشلا يتحمل مسؤوليته اللبنانيون ولا يمكن تحميله للسعودية التي تريد ان تبقى خارج لعبة الاسماء " والفيتوات". في المقابل قرأت اوساط اخرى موقف الرياض بانه سقوط غير مباشر للمرشح فرنجية لان اي خيار موحد للقيادات اللبنانية لن يكون على فرنجية بل على مرشح محايد وعلى مسافة واحدة من جميع الافرقاء اللبنانيين ومصدر ثقة لهم. واعتبر مصدر ديبلوماسي اوروبي ان موقف الرياض بات يعني عمليا انها قررت الا تكون شريكة في التسوية التي تريدها باريس لكنها حتما لن تعطلها، وهي اعطت اشارة مريحة الى الفريق الذي يدعم فرنجية من دون ان " تصدم" الفريق الذي يعارضه. ونقلت اوساط قريبة من الرئيس بري، في ضوء الموقف الذي تبلغه من السفير بخاري، إنه "في حال عدم حصول أيّ تطور دراماتيكي في لبنان أو المنطقة، يُمكن القول إن انتخاب فرنجية صارَ في نهاياته"، لكن الأمر "يحتاج الى ترتيبات داخلية ستأخذ وقتاً". وهذه الترتيبات لها علاقة "بموقف النواب السنّة والنواب المسيحيين الذين سينخرطون في التسوية، وبعض نواب التيار الوطني الحر ليسوا بعيدين عن الجو"، مشيرة إلى أن "الموقف ليسَ سهلاً، حتى على رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي سيحتاج انخراطه بالتسوية إلى خطوات معينة داخل الحزب ومع القوى المسيحية التي يحرص على عدم معاداتها لاعتبارات خاصة بالجبل"، وهذا مسار "لن يُحلّ في يوم أو يومين، وبالتالي الحديث عن الدعوة الى جلسة انتخاب قريبة هو مبالغة". وتتقاطع هذه الأجواء مع معلومات تفيد بلقاء جمع بري وفرنجية قبل ايام بحضور الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، كان فيه رئيس المجلس صريحاً بأن "السعودية لم تفتح الأبواب كلياً بعد، وأن الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت والعمل على الكتل والنواب والقوى السياسية لتأمين النصاب".