في بلد يقف على حافة الهاوية مثل لبنان، فان اقل شائعة من اي مصدر كانت تهزه هزاً وتترك تداعيات على المشهد السياسي القائم خصوصا مع وجود مواقع للتواصل وللاعلام لا شغل لها سوى تعميم مثل هذه الشائعات والترويج لها على اساس انها حقيقة، فيما هي مجرد شائعة لا اساس لها من الصحة. آخر مظاهر الاعلام المتفلت في لبنان على نطاق واسع، ما روّج عن ان الوثيقة التي نشرتها الامم المتحدة عن تسلم ورقتي لبنان واسرائيل في ما خص التفاهم على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، هو اعتراف لبناني بــ " دولة اسرائيل" ستكون له مضاعفات على اكثر من صعيد. وراحت مخيلة مطلقي هذه الشائعة الى حد اتهام مسؤولين سابقين واخرين حاليين بــ " الخيانة العظمى" وتسهيل " الاعتراف بالعدو" وغيرها من العبارات التي يستسيغ البعض تكرارها في اطار الحملات الشعبوية التي تكثر في زمن الفراغات السياسية والمؤسساتية. وضرب كثيرون اخماسا باسداس وتحضروا لحملات واسعة وتحركات شعبية ومهرجانات ومسيرات وغيرها من ردود الفعل التي لا تأتلف مع الواقع. لكن كل ذلك تبخر بعدما اتضح ان الوثيقة التي قيل انها تشكل " اعترافا بدولة اسرائيل" لا تعدو كونها تسجيلا للاتفاق على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية حمل الرقم 71836 نشر على الموقع الرسمي للامم المتحدة، واكد فيه الامين العام "انطونيو غوتييريس "على تبلغ الامم المتحدة رسالتي لبنان واسرائيل في هذا الخصوص وتسجيلهما في الامانة العامة وفقا للمادة 102 من ميثاق الامم المتحدة حول تسجيل الاتفاقيات البحرية بين الدول. ومعلوم ان الرسالة اللبنانية وقعها الرئيس العماد ميشال عون قبل انتهاء ولايته باربعة ايام، فيما الرسالة الاسرائيلية حملت توقيع رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق يائير لابيد، وسلمتا في حينه في مقر الامم المتحدة في الناقورة كل بلد على حدى، للوسيط الأميركي" اموس هوكشتاين" من دون ان يلتقي اعضاء الوفدين اللبناني والاسرائيلي مع بعض.
وعلى رغم ان لبنان اعلن يوم انجاز الاتفاق بانه لا يشكل اعترافا باسرائيل ولا اي شكل من اشكال التطبيع مع العدو، الا ان الذين يعملون على " تنسيق" الحملات، سارعوا الى الترويج بان ادعاء لبنان بعد توقيع الرسالة بان لا اعتراف باسرائيل " اصبح موضع شك" لان لبنان " اعترف من خلال ترسيم الحدود البحرية بوجود دولة اسرائيل"! ومن مظاهر الغرابة ان الترويج لمسألة " الاعتراف باسرائيل" استمر على رغم الايضاحات التي صدرت عن قانونيين ودستوريين وديبلوماسيين، وذلك على قاعدة " عنزة ولو طارت". والملفت ان ردة الفعل الرسمية لم تكن بحجم الحملة التي شنت بعد الاعلان عن تسجيل الورقتين اللبنانية والاسرائيلية في الامم المتحدة، على رغم ان الحكومة الحالية هي التي تم الاتفاق خلال تصريفها الاعمال قبل انتهاء الولاية الرئاسية. فلا رئاسة الحكومة ردت لاسكات المروجين، ولا وزارة الخارجية اعتبرت نفسها معنية بكل ما يجري وكأن هذه الحملات تحصل خارج لبنان وتستهدف دولة غير الدولة اللبنانية. اكثر من ذلك، لم يدافع الوزراء المعنيون بالترسيم عن حدث هللوا له كثيرا عندما انتهى بعد مفاوضات طويلة وصعبة وكأنهم تعمدوا ترك الاقاويل تتفاعل لغاية في نفس يعقوب او نتيجة جهل خطورة الاتهامات بالخيانة العظمى وما شابه. لقد بدا واضحا ان " الاوركسترا" التي تولت ضخ هذه الكمية من الروايات المختلقة تضم في عدادها من شاركوا في الماضي في الترويج للخط 29 واعتبار التنازل عنه " خيانة وطنية" لكن اهدافهم هذه المرة اختلفت عن المرة السابقة. ذلك انه قبل انجاز الترسيم كان الهدف " تخوين" رئيس الجمهورية آنذاك وفريق عمله وكل من دعم اعتماد الخط 23 لان الخط 29 هو خط تفاوضي وليس خط نهائيا. اما بعد انتهاء الترسيم ومرور خمسة اشهر على التوقيع، فهدف الحملة رؤوس من استمروا في مواقعهم الرسمية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون لاجل تحميلهم مسؤولية الترسيم ومتابعته والعلاقة مع الوسيط "هوكشتاين" ، وكذلك الترويج بان من تمسكوا بالخط 29 كانوا على حق، اضافة الى تطويق اي محاولة جديدة لاستكمال مرحلة ما بعد الترسيم البحري، اي الانتقال الى مفاوضات صعبة لتكريس الترسيم البري، ثم استئناف البحث في ترميم المؤسسات الرسمية واعادة حيويتها وبسط سلطة الدولة على كل الاراضي اللبنانية ووقف عمليات التهريب سواء تم عبر معابر شمالية غير شرعية، او عبر الجرود القائمة على طول الحدود اللبنانية- السورية، بقاعا وشمالا.
الشائعات طاولت " توتال" التي كذبتها
وفي اطار الحملات نفسها، روّج اعضاء " الاوركسترا" بان شركة " توتال انرجيز" لم تحدد بعد موعدا للبدء عن التنقيب في حقل قانا القائم ضمن " البلوك 9"، وان هذه المسألة ابتعدت عن الواقع كثيرا مما يؤجل حكما عمليات التنقيب الى ما بعد شهر شباط ( فبراير) 2024... الا ان ردة الفعل الرسمية والفرنسية هنا كانت افضل بكثير من ردة فعل المسؤولين في وزارتي الخارجية والطاقة والمياه، اذ ان شركة " توتال" سارعت الى التعميم بان ايام قليلة تفصل عن اعلان "توتال" عن هوية الشركة التي ستتعاقد معها لحفر البئر في حقل قانا، على ان تبدأ اعمال التنقيب ضمن الوقت المحدد بين ايلول ( سبتمبر) وتشرين الاول( اكتوبر) المقبلين. وفي المعلومات ان خمس شركات تقدمت إلى المناقصة التي تجريها «توتال» للقيام بأعمال الحفر، ثلاث منها أميركية (Valaris PLC, Noble Corporation, Transocean INC) وواحدة متعددة الجنسيات (Saipem Drilling) وخامسة نروجية (Odfjell Drilling). وعلم أن "توتال" ستعتمد استراتيجية في أعمال الحفر توحي بجدية وبمحاولة لاختصار الوقت. إذ جرت العادة أن تحفر الشركات بئراً استكشافية لتقدير الكميات ودرس جودتها. ولدى التأكد من توفر كميات تجارية بمواصفات مقبولة، تنتقل إلى المرحلة الثانية بحفر آبار إنتاجية. وبحسب المعلومات، ستعمل الشركة الفرنسية على اعتماد طريقة هندسية في حفر البئر الاستكشافية على بعد 7 كلم من الخط 23، بما يمكّن من استخدامها كبئر إنتاجية عند التأكد من وجود كميات تجارية، ما يخفف من النفقات ويقصّر المراحل ويوفر الوقت، ويجعل من الممكن بدء الإنتاج من الحقل بعد إنجاز العمليات التطويرية مباشرة. ومن ضمن الأفكار التي ستعمل عليها الشركة، وأبلغت وزارة الطاقة بها، وضعها خططاً لاستثمار «سريع ومدروس» للكميات المتوفرة فور التأكد من وجودها، من خلال استخدامها في إنتاج الطاقة الكهربائية خلال فترة تراوح بين عامين وثلاثة أعوام في حال وجود اكتشافات.
غير أن هذه الخطط ينبغي أن تأخذ في الحسبان مدّ خط أنابيب من حقل قانا قبالة الناقورة إلى معمل الزهراني الحراري بمسافة أكثر من 60 كيلومتراً. ويحتاج بناء الأنابيب إلى مدّها صوب الشاطئ، ومن ثم الانتقال بها برّاً باتجاه معمل الزهراني الحراري، مع ما يتبعها من انحناءات، بسبب ارتفاع احتمال تعرّضها للضرر جرّاء مياه البحر، إضافة إلى ارتفاع كلفة صيانة الأنابيب في المياه مقارنة بتلك الموجودة على اليابسة، فضلاً عن ضرورة حساب مستويات العمق بشكلٍ دقيق. كما ينبغي أن يترافق ذلك مع تسوية المسائل العقارية حيث سيمرّ الخط، والأخذ في الحسبان مسألة توفير التمويل لمشروع لا يُعدّ إنجازه سهلاً في دولة مفلسة، ما يجعله في الوقت الراهن حلماً. غير أنّ مصادر مواكبة لملف النفط والغاز قالت إن التعاقد مع"توتال" و "إيني" بوصفهما شركتَي إنتاج واستثمار في الطاقة وليس فقط استكشاف وإنتاج الغاز والنفط، يجعل من المشروع قابلاً للتحقق وفق شروط ومعايير تُناقَش بين المشغل والدولة اللبنانية، لكن يبقى ذلك كله رهن مدى توفّر كميات تجارية ضمن الحقل.