لم يكن المشترع اللبناني يعتقد ان الواقع السياسي في لبنان سيصل الى هذا الدرك بحيث يعطل نواب جلسات مجلسهم النيابي، او يقاطع وزراء مجلس الوزراء لحسابات شخصية او سياسية، وليس لاهداف وطنية سامية .. ولا ادرك المشترع استطرادا ان الحياة النيابية في لبنان ستواجه هذا الكم من التناقض واللااستقرار كما هي الحال اليوم، ولا تحسب لسوابق في الممارسة النيابية كالتي يعيشها لبنان راهنا.... ذلك لو ان المشترع ادرك ان الخلافات بين السياسيين ستصل الى حد تعطيل جلسات مجلس النواب، لكان " ابتداع" مخرجا يناسب الوضع المستجد. في اي حال فان ضحالة اداء السياسيين اللبنانيين تظهر هشاشة التركيبة السياسية اللبنانية وتصبح الحاجة اكثر فاكثر الى اعادة نظر شاملة بالنظام اللبناني، على ان يتم ذلك بالتوافق بين المكونات اللبنانية لئلا تعتبر اي خطوة اصلاحية وكأنها تحد لفريق من اللبنانيين في حق فريق آخر. ومن مظاهر الخلافات التي تتكرر دائما وفي المواسم الانتخابية مسألة ما بات يعرف بــ " تشريع الضرورة" الذي عاد الجدل الدستوري حوله من جديد بعد بدء الشغور الرئاسي من جهة، ووجود حكومة تصريف اعمال من جهة اخرى، حيث تباينت الاراء ما اذا كان في امكان مجلس النواب ان يعقد جلسات تشريعية في ظل تعذر انتخاب رئيس الجمهورية بعد، ام ان الاولوية هي لانتخابات الرئاسة ولا شيء قبل تحقيقها.
مصدر الخلاف ينطلق من نص المادة 75 من الدستور الذي تفيد بان مجلس النواب الملتئم لانتخاب رئيس للجمهورية يصبح هيئة ناخبة لا تشريعية . رئيس المجلس نبيه بري يعتمد تفسيرا لنص يعتبر فيه ان المجلس في اوقات عدم انعقاده لانتخاب رئيس يمكنه ان يشرع، هذا ما حصل بين العامين 2014 و 2016 في اطار " تشريع الضرورة". في مقابل هذين التفسيرين، ترجح مصادر نيابية ان يكون الرأي الغالب هو للرئيس بري وبالتالي فان هذه المصادر تؤكد ان مجلس النواب سوف يستأنف دوره التشريعي ولن يقتصر دوره على ان يكون مجرد هيئة ناخبة في حال استمر الشغور الرئاسي فترة طويلة كما حصل بعد انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان في حكومة مكتملة الاوصاف للرئيس تمام سلام. وتذكر المصادر نفسها انه في تلك الفترة، تم اقرار عدد كبير من المشاريع اعتبرت يومها ضرورية. خلافا لرأي مجموعة نيابية اخرى. الا ان الواقع يؤكد على ان عدم الاتفاق على تشكيل حكومة مكتملة الاوصاف قبل انتهاء عهد الرئيس ميشال عون، ولو نالت ثقة مجلس النواب، لكانت الامور مختلفة، وبالتالي انتفت الحاجة الى اجتهاد او عرف دستوري او تفسيرات " مزاجية" ودراسات " غب الطلب"، ولسقطت المزايدات التي يعتمدها البعض اليوم في وجه البعض الاخر متناسين حقيقة ان ما وصلت اليه البلاد في هذه الايام، هو تراكم اداء غير مسؤول من سلطة سياسية تجاوزت كل القواعد وفصلت الدستور على مقاسها، وقرأت نصوصه على هواها....
لا موانع دستوريا
في هذا السياق، وفي اطار النقاش حول دستورية المجلس النيابي للقيام بالتشريع في فترة تحوله الى هيئة انتخابية منذ دخول المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية، يؤكد مرجع دستوري ان لا مانع من قيام المجلس النيابي بإقرار القوانين والتشريع في حال الضرورة، ويلفت المرجع الى إمكانية أن تقوم حكومة تصريف الأعمال أيضا بممارسة مهامها وكأنها حكومة مكتملة الصلاحية ولكن بالمعنى الضيق.وتشرح المصادر معنى كلمة تشريع الضرورة بأنه يهدف الى معالجة المواضيع الأساسية والهامة المتعلقة بحياة المواطن اللبناني بشكل مباشر وتسييّر شؤون الدولة، ومثلا على ذلك إقرار الموازنة لأنه لا يمكن للدولة أن تسير دونها، كذلك الأمر في حال كانت هناك اتفاقيات دولية محددة بفترة زمنية معينة وضرورة الموافقة عليها قبل خسارتها، وهذا الأمر يتيح للحكومة بإرسالها الى المجلس النيابي لإقرارها قبل فوات المهلة المحددة كي لا يخسرها لبنان.
من هنا، يرى المرجع ان لدى المجلس النيابي الحق في التشريع في ظل حكومة تصريف الأعمال لكنه يشدد على ان يبقى ضمن تشريع الضرورة الموازي لتصريف الأعمال.
وعن ملف كهرباء لبنان وتمويل شراء كميات كبيرة من الفيول التي تسمح بزيادة ساعات التغذية إلى عشر ساعات يومياً والحاجة إلى تغطية مباشرة من الحكومة والمجلس النيابي لإقرار قانون سلفة خزينة لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، يعتبر المرجع الدستوري ان هذا الموضوع يعتبر من الأمور الضرورية لأنه يصب في مصلحة البلاد العليا ذلك من خلال إمكانية الاستفادة من زيادة ساعات التغذية بالكهرباء وانعكاس ذلك إيجابا بشكل مباشر على المواطن اللبناني وتخفيف الأعباء عنه.
المصادر تشير الى ان الوصول في النهاية إلى هذه الخطوة يحتاج إلى غطاء سياسي شامل من كافة القوى الأساسية في البرلمان، وفي حال رفض بعض الكتل النيابية السير في هذا الأمر، فأنه من غير المستبعد قيام رئيس مجلس النواب بدور خاص والتدخّل لدى الكتل النيابية وبعض النواب لإيجاد مخرج بإقرار هذه السلفة.
ويلتقي كلام المرجع الدستوري مع ما كان اتخذه في وقت سابق الرئيس حسين الحسيني، الذي يعتبر " اب الطائف"، يوم كان رئيسا لمجلس النواب حين دعا الى عقد جلسة للتصديق على وثيقة الطائف في 5 تشرين الثاني( نوفمبر) 1989، ومن ثم رفع الجلسة وافتتح اخرى لانتخاب الرئيس الشهيد رينيه معوض، فضلا عن جلسات لانتخاب هيئة مكتب المجلس وجلسة اداء القسم للرئيس المنتخب. والاستناد الى تلك السابقة هو الاساس الذي تم الركون اليه لاسيما بين العامين 2014 و 2016. ويعتبر الرئيس الحسيني ان ما يعرف بــ " تشريع الضرورة"، امر يتعلق بمحتوى الدعوى الى جلسات له ومضمون هذه الدعوة. من هنا تبدو مواقف الكتل " لينة" حيال مسألة " تشريع الضرورة" وان كان بعض هذه الكتل حسم موقفه بعدم المشاركة. واذا كانت كتلة " التنمية والتحرير" هي " ام الصبي" وحكما هي داعمة ومتحمسة لتشريع الضرورة، فان كتلة " اللقاء الديموقراطي" وبحسب النائب اكرم شهيب " مع التشريع في ظل الفراغ في سدة الرئاسة وكذلك التشكيك بالحكومة الحالية ومدى ممارستها صلاحيات الرئاسة وبالتالي لا يمكن ترك الامور في حال كانت الضرورة تحتم التشريع". اما النائب الياس جرادي فيشير الى ان الاساس هو انتخاب رئيس للجمهورية وليس القيام باي عمل آخر ويوضح ان " على الجميع التفرغ لانتخاب رئيس للجمهورية وكذلك المشروع في حوار حتى لا يكون الفرض في الخارج على الداخل". اما عن التشريع في ظل الفراغ في سدة الرئاسة فيلفت الى انه في حالات الضرورة يجب ان نشرع وان لا نترك الامور على حالها اذا كان الامر يؤدي الى تسيير المرافق العامة والاهتمام بشؤون الناس". اما كتلة الجمهورية القوية فسبق ان اعلنت معارضتها للتشريع قبل انتخاب رئيس للجمهورية، فيما ينحو تكتل " لبنان القوي" في اتجاه المشاركة في جلسات التشريع اذا كانت ستؤدي الى اقرار قوانين تخدم المصلحة العامة. وبدورها كتلة " الوفاء للمقاومة" ستشارك في جلسات التشريع وكذلك عدد من النواب المستقلين، اما كتلة " الكتائب" فهي على موقفها المعارض للتشريع قبل انتخاب رئيس للجمهورية.
في المحصلة سينجح بري في عقد جلسات تشريعية طالما ان لا توافق على مرشح لرئاسة الجمهورية ولا قبول بالحوار حتى اللحظة، عدا ان التشريع قد يكون ضروريا لتنفيذ الوعود الحكومية لتمويل الكهرباء وعادة التغذية بالتيار الى 8 و 10 ساعات.