هل كان الرئيس الفرنسي" ايمانويل ماكرون "ينوي فعلا زيارة لبنان لتمضية عطلة رأس السنة مع الجنود الفرنسيين العاملين في " اليونيفيل" في الجنوب ثم عاد والغى الزيارة مفضلا تمضية الاعياد على متن حاملة الطائرات" شارل ديغول " التي كانت راسية في البحر الميت؟ هذا السؤال تكرر مرات عدة خلال الاسبوعين الماضيين من دون ان يتوافر جواب واضح له سوى ماكرون لم يزر العسكريين الفرنسيين في جنوب لبنان. هذا فقط ما تأكد، اما الباقي فظل اسير التكهنات والاجتهادات السياسية والإعلامية، الا ان مصادر متابعة تقول ان الرئيس "ماكرون "كان قرر في نهاية شهر ايلول( سبتمبر) الماضي ان يستقبل السنة الجديدة مع جنوده في جنوب لبنان، وتم ابلاغ قيادة القوة الفرنسية بــ " القرار المبدئي" لرئيس الجمهورية الفرنسية باتمام هذه الزيارة جريا على التقليد الذي يقضي بان يستقبل رئيس الدولة السنة الجديدة مع عسكريين فرنسيين من منتشرين في الخارج بعيدا عن عائلاتهم كي يشعر هؤلاء العسكريين بتضامن الدولة ورئيسها معهم وتعاطفهم مع الدور الذي يقومون به في حفظ السلام بصرف النظر عن الاعتبارات السياسية او الامنية. الا انه مع اقتراب بداية شهر كانون الاول ( ديسمبر) الماضي تم تعديل وجهة سفر الرئيس" ماكرون" الذي اسقط زيارة لبنان وفضل تمضية نهاية السنة على متن حاملة الطائرات التي تحمل اسم الرئيس ديغول.
تضيف المصادر نفسها ان قرار" ماكرون "لا يمكن فصله عما قاله في حديثه وهو في الطريق من الاردن عائدا الى بلاده، عن " فساد" الطبقة السياسية اللبنانية وعدم اهليتها وضرورة حصول تغيير في هذه الطبقة وتصحيح المسار. وهو سبق ان اعلن بعد زيارته التفقدية لمرفأ بيروت بعد جريمة التفجير التي حصلت فيه ان الطبقة السياسية اللبنانية " ترهلت" ولا بد من دم جديد يقود البلاد نحو الاصلاحات المطلوبة لبدء خطة النهوض الاقتصادي. وبالتالي فان ثمة من يرى ان موقف "ماكرون "المعلن في حديثه الصحافي، ثم في قراره عدم المجيء الى لبنان، اشارة بان باريس في طور اعادة التموضع على الساحة اللبنانية خصوصا بعد " تغييب" لبنان عن النقاش في مؤتمر بغداد، باستثناء اشارة عامة لا قيمة سياسية لها، هذا المؤتمر الذي لم يحقق الغاية من انعقاده اساسا والذي شكل " صدمة ديبلوماسية" للسياسة الخارجية الفرنسية عموما، ولدور" ماكرون" خصوصا. وتردد في وقت لاحق ان باريس لاحظت ان دورها بدأ بالانحسار في المنطقة بعد الاتهام الايراني لفرنسا بالوقوف وراء الاحتجاجات التي حصلت في الداخل الايراني ما عرقل تحركات فرنسية " توفيقية" في كل من لبنان والعراق. كذلك سجل امتعاض اميركي مما وصف بـــ " الاندفاعة الفرنسية المفرطة في .... المنطقة ما جعل الاميركيين " يرتابون" من عودة الزخم الفرنسي على الساحة العربية من خلال " المفتاح" الذي يمثله لبنان بالنسبة الى السلطات الفرنسية. وهذا التباين الفرنسي- الاميركي كان ظهر جليا خلال لقاء الرئيسين "ماكرون "و"جو بايدن "حيث بدا ان التصاريح التي ادلى بها "ماكرون" ان ثمة خلافات جوهرية، علما ان الرئيس الفرنسي لم يخف امام الاميركيين العلاقة التي كانت بينه وبين الايرانيين ثم اصابتها " البرودة" قبل اسابيع ما جعله يقول بوضوح غير ديبلوماسي ان المشاكل اللبنانية الكثيرة تتعلق بالتأثير السلبي للسياسة الايرانية على العديد من العواصم العربية وتحديدا بيروت ودمشق وبغداد، وحلها يحتاج الى " حوار اقليمي ودولي لتقليص تأثير طهران على هذه الدول".
الحل بالتوافق الداخلي على الرئيس العتيد
ويروي عائدون من العاصمة الفرنسية بعدما امضوا عطلة الميلاد والتقوا ديبلوماسيين فرنسيين قريبين من قصر الاليزيه ان هذا الحوار المطلوب ليس مع ايران وحدها ولكن ضمن انخراط عربي- اسرائيلي، كما أشار" ماكرون" الذي يعتبر ان المنطقة تحتاج الى استقرار امني وتجذب افتعال خضات داخلية امنية. كل ذلك يحتاج الى وقت لتحقيقه وارادة دولية واقليمية وانخراط داخلي. فلبنان يعيش منذ فترة من دون سلطة تنفيذية مستقرة، وفي شغور رئاسي، وفي ظل حكومة تصريف اعمال تتعرض يوميا لهزات داخلية. وفي هذا السياق تعول باريس على انتاج اطار لوضع الانتخابات الرئاسية وتشكيل حكومة جديدة للقيام بالاصلاح على السكة. بيد ان الحل لا يمكن ان يكون خارجيا بل من خلال توافق داخلي يدعمه الخارج. ثم ان لبنان هو دائما " في قلب المؤتمرات" كما يقول ماكرون، لكن ذلك لا يعني انعقاد مؤتمر حوله لتسهيل انتخاب رئيس او للضغط من اجل ذلك، بل ان مساعي باريس خلال العديد من المؤتمرات هي على سبيل المثال لاتمام اتفاقات بشأن تأمين الكهرباء التي تشكل عاملا رئيسيا في الانماء الاقتصادي، الذي يحتاج اليه لبنان لاعادة اطلاق العجلة الاقتصادية التي تؤمن عودة النمو ومن خلالها عودة الثقة الدولية بلبنان. وعدم قيام "ماكرون" اخيرا بزيارة القوة الفرنسية العاملة في اطار " اليونيفيل" مرده الى عدم وجود دولة في لبنان حاليا بكل ما للكلمة من معنى. فرئاسة الجمهورية شاغرة والحكومة مستقيلة وتصرف الاعمال والطبقة السياسية تتناحر وتعطل الانتخابات الرئاسية. لذا لم يعد لزيارته لبنان اي معنى ولن تساعد على التوصل الى حل لان التوافق مفقود. فباريس لا تود ان تقوم بدور القوى السياسية المحلية وليس لديها مرشح لرئاسة الجمهورية وهي لا تضغط من اجل انتخاب اي من المرشحين وان كان تردد في الاروقة السياسية ان باريس تؤيد انتخاب الوزير السابق زياد بارود، ثم انها لا تمانع بوصول قائد الجيش العماد جوزف عون الى بعبدا، كما انها باتت تميل نحو المرشح الذي يسميه البطريرك الماروني. ذلك " الجو" الفرنسي يميل الى التأكيد بان انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس للحكومة ومنحها الثقة هو دور القوى السياسية داخل مجلس النواب. وهذا الموقف " يناقض" توصيف الرئيس" ماكرون" للطبقة السياسية اللبنانية بانها " فاسدة" وتدعو الى التغيير من خلال الشباب. ويضيف العائدون بان الكلام الفرنسي الراهن يكتفي بالقول ان باريس تدفع في اتجاه حصول الانتخابات الرئاسية ووضع خطة انقاذ لمساعدة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على تخطي فترة الفراغ الرئاسي باقل اضرار ممكنة وسط المخاوف التي برزت مؤخرا من امكانية حصول اهتزازات امنية. والملاحظ ان باريس لم تسم احدا من " الطبقة السياسية الفاسدة" بل اكتفى" ماكرون "بتوصيف عام من دون الدخول في التفاصيل. الا ان الحديث عاد وبقوة الى امكانية فرض عقوبات على افراد في الطبقة السياسية تقتصر على اجراءات محدودة لانها غير راغبة في قطع علاقتها مع اي من" اللاعبين الكبار" على الساحة السياسية اللبنانية حاليا.