لم يكن سهلا على كثيرين في لبنان والخارج تقبل واقع خروج اللواء عباس ابراهيم من المديرية العامة للامن العام بعدما شغل هذا المنصب 14 عاما تقريبا كانت حافلة بالنجاح في المهمات التي نفذها داخل لبنان وخارجه، وفي الادوار التي لعبها والتي تجاوزت منصبه كمدير عام للامن العام. لذلك لم يتقبل كثيرون، في لبنان وخارجه، الا يمدد للواء ابراهيم في منصبه بصرف النظر عن الالية المعتمدة، فالناس تريد النتيجة وليس الغرق في التفاصيل... وهكذا غادر رجل " المهمات الصعبة" وصلة الوصل بين تناقضات ومتناقضين، والشخصية التي كانت تلجأ اليها قيادات رسمية وسياسية وروحية وشعبية من اجل حل اشكالية من هنا، واعادة مخطوفين من هناك، وتسوية اوضاع شاذة من هنالك، وفي كل المرات كان ابراهيم يتجاوب مع قاصديه حتى بات حاجة وطنية تجاوز في شخصه منصبه، فكان المستشار الرئاسي غير المعلن والوسيط لاطلاق مخطوفي اعزاز، وبطل المفاوضات لاطلاق راهبات معلولا، والوسيط النزيه في قضية اطلاق سراح الصحافي الاميركي اوستن تايس الذي كان موقوفا في السجون السورية. لقد نجح اللواء ابراهيم في خرق انقطاع العلاقة في عز الازمة السورية، واول من خاض مفاوضات من اجل اطلاق العسكريين في عرسال، وهو نفسه الذي سافر الى العراق اكثر من مرة وفاوض المسؤولين العراقيين وامن مدّ لبنان بالفيول العراقي من اجل ادارة معامل انتاج الطاقة ولو لساعات محدودة. وعندما كانت تنعقد مفاوضات تشكيل الحكومات منذ عهد الرئيس ميشال سليمان وصولا الى عهد الرئيس ميشال عون، كانت الانظار تتجه اليه لتذليل العقبات وتأمين ولادة الحكومات بتوافق من الجميع حيث كانت " كلمته" مسموعة ودوره مقدّر. وعندما تعثرت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية الجنوبية دخل اللواء ابراهيم على الخط فاطمأن اليه الجانب الاميركي وهو الذي كان يحظى ايضا بثقة حزب الله وامينه العام السيد حسن نصر الله بالتوازي مع ثقة الرئيس ميشال عون الذي كان يقدر فيه خبرته واخلاصه لوطنه وامانته وشفافيته، فاوكل اليه الكثير من القضايا الصعبة التي استطاع اللواء ابراهيم ان يحل عقدها ويوصلها الى نتائج ايجابية.
اللواء ابراهيم سجل النجاح والريادة
مسيرة اللواء ابراهيم بدأت في الجيش حيث تولى مهمات عدة منها امن الرئيس الراحل الياس الهراوي، ثم في وقت لاحق امن الرئيس الشهيد رفيق الحريري على مدى ثلاث سنوات، ثم انتقل الى مديرية المخابرات حيث بنى فيها سيرة مهنية وطنية، سواء عندما كان مديرا لفرع مخابرات الجنوب او لاحقا المساعد الاول لمدير المخابرات. وفي كل هذه المهام التي تولاها كان اللواء ابراهيم يعمل بصمت وبكفاءة عالية ناسجا شبكة من العلاقات الدولية والاقليمية على مدى سنوات وصولا الى تسلمه المديرية العامة للامن العام ومعه سجل حافل من النجاحات في الجيش ليس اقلها ضبط اوضاع المخيمات الفلسطينية، وتنسيق عملية تبادل الاسرى في العام 2008 وغيرها من المهمات التي نفذها بنجاح. واكمل اللواء ابراهيم في الامن العام ما كان بدأه في الجيش فامسك بملف النازحين السوريين الى لبنان وتمكن من تأمين عودة اكثر من 300 الف شخص منهم واستمر حتى آخر دقيقة من ولايته يعمل على استكمال مراحل جديدة من " العودة الامنة" للنازحين الى بلادهم. وتنقل ابراهيم بين لبنان ودول عدة حاملا معه الحلول لمشاكل معقدة عدة، وكانت له مع المسؤولين في الادارة الاميركية محطات من المفاوضات المعقدة التي كانت تنتهي وفق ما يتمنى. ولعل الدور الذي لعبه مع الوسيط الأميركي" آموس هوكشتاين" الذي كان يحرص على ان يكون له اللقاء الاول فور وصوله الى بيروت مع اللواء ابراهيم، كان الدور الابرز والاخير في سلسلة ادواره الناجحة التي استحق عليها شهادات عدة واحتفالات تكريمية داخل لبنان وخارجه ومقالات عدة كتبت عنه في الصحافة اللبنانية والعربية والدولية. كل ذلك من دون ان تغيب عن البال، انجازاته في الامن العام حيث ادخل المكننة بكل تفاصيلها، وشرع ابواب المديرية العامة لخدمة المواطنين بامانة وشفافية حتى باتت دوائر الامن العام نموذجية في خدمة المواطن والمقيم وعابر السبيل. في ايامه، تم فتح مراكز جديدة للامن العام، وتعزيز القديم منها واعيدت الثقة الى جواز السفر اللبناني في دول العالم، وانجزت الخدمات في فترات زمنية قياسية، ونفذ الامن العام مهمات امنية تتجاوز العمل الروتيني اليوم من خلال وحدات خاصة اشرف اللواء ابراهيم على انشائها وهو الضليع بادوارها من خلال تسلمه لفترة طويلة قيادة فوج المغاوير في الجيش، ثم في مديرية المخابرات.
رجل هذا سجله في النجاح والانجاز والريادة، كيف يمكن للدولة ان تستغني عن خدماته ولا يعمل من فيها لتمديد اقامته في الامن العام بضعة اشهر اضافية حتى يمر الوطن من الظروف القاسية التي يعيشها منذ سنوات؟ كيف يمكن لمسؤول، في اي موقع كان فيه، ان يحبط عن سابق تصور وتصميم كل المحاولات الايلة الى بقاء اللواء ابراهيم في منصبه، وهو الذي شكل استثناء وعلامة فارقة في الادوار التي نجح بها سياسيا ووطنيا وانسانيا وامنيا، فكان نموذجا راقيا، ومختلفا عما كان عليه اقرانه الامنيون في زمن الوصاية وبعدها؟ الواضح ان الطبقة السياسية توجست من اللواء ابراهيم " وخافت" من حجمه وحضوره بعد الثقة الداخلية والعربية والدولية التي بات يتمتع بها فكانت " النقزة" منه سببا لابعاده وتعطيل التمديد له في الامن العام بضعة اشهر كي يواصل " فك الاشتباك" في محطات عدة لا تزال تجثم على صدر الوطن الذي خدمه ابراهيم باخلاص وتفان ووفاء والتزام ما جعل الانطباع يتكون لدى الكثيرين بان التمديد له واقع لا محالة لالف سبب وسبب. لكن من يتحمل مسؤولية عدم بقاء اللواء ابراهيم في الامن العام لفترة زمنية اضافية؟ المعطيات التي تجمعت حول هذه المسألة تظهر ان اللواء ابراهيم وقع ضحية من وثق بهم ومن كان دائما الى جانبهم وتدخل مرارا لانجاز مهمات بتكليف منهم. لكن ثمة اربعة اشخاص يتحملون المسؤولية المباشرة عن ابعاد اللواء ابراهيم، وان بنسب متفاوتة.
يتحملون مسؤولية اقصاء اللواء ابراهيم
في مقدمة هؤلاء، الرئيس نبيه بري الذي استطاع ان "يحاصر" التمديد لابراهيم على رغم كل المساعي التي بذلت والمخارج التي وضعت، الى درجة انه تمكن من تجميد مسيرة التمديد عندما احال في مرحلة اولى اقتراح القانون المعجل المكرر الذي تقدمت به كتلة نواب اللقاء الديموقراطي للتمديد للمسؤولين العسكريين الذين يتقاعدون مع نهاية 2022 وخلال 2023، الى اللجان المشتركة بعد نزع صفة المعجل المكرر عنه، ما ادخل الاقتراح في باب الاجتهادات وفتح الباب امام شهية التعامل بالمثل لمديرين عامين مدنيين ومسؤولين عسكريين على رغم ان آوان تقاعدهم لم يكن قد حلّ. ثم تلا ذلك تقديم اقتراحات متنوعة لم يأخذ بها الرئيس بري، اكد انه صار من المتعذر انعقاد جلسات مجلس النواب لاعتبارات ميثاقية. كذلك يشترك في تحمل سمؤولين عدم التمديد للواء ابراهيم الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي لو اراد فعلا ان يبقى اللواء ابراهيم في مركزه فترة اضافية لكان استطاع من خلال تأثيره المعنوي ونفوذه السياسي، "اقناع" الرئيس بري بعقد جلسة تشريعية واقرا قانون التمديد ولو غاب عنها نواب " القوات" و" التيار الوطني الحر" وهكذا يكون " الثنائي الشيعي" قد انكفأ عمليا عن لعب اي دور عملي لتأمين التمديد للواء ابراهيم ما يعني ان المواقف التي صدرت بدعمه مجرد " رفع عتب" لا اكثر. كذلك لا يقل دور رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في عدم تسهيل عملية التمديد على رغم الوعود التي كان اطلقها بالتجاوب مع اي جهد يبقي اللواء ابراهيم في منصبه، ذلك ان الرئيس ميقاتي تمسك بضرورة اقرار قانون في مجلس النواب يجيز التمديد للواء ابراهيم ولم يأخذ بالدراسات القانونية التي قدمت له حول دور مجلس الوزراء في اقرار التمديد من خلال استدعاء اللواء ابراهيم من الاحتياط وتكليفه الاستمرار في مهمته وفق آلية قانونية كانت كافية لتأمين طي هذا الملف. لكن تذرع الرئيس ميقاتي بامكانية الطعن بهذا الاجراء حال دون وصول الملف الى مجلس الوزراء الذي التأم قبل يوم واحد من موعد احالة اللواء ابراهيم على التقاعد. وقيل الكثير عن الاسباب التي دفعت ميقاتي الى عدم تسهيل بقاء اللواء ابراهيم علما ان الرواية الاقرب للواقع ان رئيس الحكومة " ساير" الرئيس بري في موقفه. اما الشخص الرابع الذي يتحمل مسؤولية عرقلة التمديد للواء ابراهيم فهو رئيس " تكتل لبنان القوي" النائب جبران باسيل الذي تراجع عن موافقته على حضور الجلسة النيابية التي كان يفترض ان يتم فيا اقرار قانون التمديد، بحجة ان مشروع القانون هذا لا تنطبق عليه صفة " تشريع الضرورة" حينا، وبحجة عدم جواز اقرار لمصلحة شخص معين احيانا اخرى، فيما الواقع ان باسيل " استشعر" عدم رغبة في التمديد للواء ابراهيم فصارت تصدر عنه مواقف متناقضة كانت حصيلتها عدم تأمين نصاب جلسة التمديد... وطي الملف نيابيا الى غير رجعة!.
لا تقاعد... ومسؤوليات في انتظاره
اذن تعددت الاسباب والحجج والذرائع والنتيجة واحدة هي خروج اللواء ابراهيم من الامن العام مع بداية شهر آذار ( مارس) الجاري، ليخلفه في تسيير اعمال المديرية، العميد الياس البيسري الذي كان يفترض ان يتقاعد مع اللواء ابراهيم، الا ان تعذر تعيين مدير عام شيعي لخلافة ابراهيم في مجلس وزراء حكومة تصريف الاعمال من جهة، وعدم اتفاق " الثنائي الشيعي" على اسم واحد من جهة اخرى، صباّ في مصلحة العميد البيسري الذي كان يتولى ادارة الامن العام بالوكالة لدى غياب اللواء ابراهيم في مهمات خارج لبنان باعتباره الضابط الاعلى رتبة في الامن العام وهو كانت مددت فترة خدمته ثلاثة اشهر في كانون الاول( ديسمبر) الماضي بقرار من وزير الداخلية والبلديات وكان يفترض ان تنتهي في الاول من آذار (مارس)، لكن اعيد الارتكاز على المادة 55 من قانون الدفاع لتأجيل تسريح العميد البيسري لان المادة المذكورة تنص على امكانية "تأجيل تسريح المتطوع ولو بلغ السن القانونية اذا كان في وضع اعتلال لم يبت به بحيث يبقى في صفته السابقة حتى صدور مقررات اللجنة الصحية". وبالفعل لم تبت اللجنة الصحية بوضع الاعتلال للعميد البيسري الذي كان اصيب في الانفجار الذي استهدف نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع السابق الياس المر وكانت اصاباته خطيرة فضلا عن حروق في انحاء عدة من جسده، وعليه اصدر وزير الداخلية بسام مولوي قرارا بتأجيل تسريح العميد البيسري لمدة سنة وكلفه بالقيام بمهام المدير العام للامن العام بالانابة. وثمة من قال ان اللواء ابراهيم هو من زكى هذا الخيار نظرا للثقة التي وضعها بالعميد البيسري خلال وجوده على رأس الامن العام، اضافة الى تحفظ " الثنائي الشيعي" على ان يحل مكان اللواء ابراهيم، الضابط الاعلى رتبة واقدمية ( بعد البيسري اذا تقاعد) العميد رمزي الرامي رئيس دائرة العلاقات العامة في الامن العام، بسبب قربه من الرئيس ميشال عون.
غادر اللواء ابراهيم الامن العام حاملا معه الكثير من الانجازات التي لا يمكن لاحد ان يتجاهلها، لتبدأ مرحلة جديدة في حياته الوطنية يرجح ان تحمله نائبا في ساحة النجمة ووزيرا في اول حكومات العهد العتيد بعدما كاد ان يصبح وزيرا في آخر حكومات عهد الرئيس عون حيث كان مطروحا كوزير للامن القومي قبل ان يتم اسقاط هذا الخيار للاسباب نفسها التي اسقط فيها خيار التمديد. والى ان ينجز الاستحقاق الرئاسي وتستعيد المؤسسات الدستورية انتظامها، سيكون اللواء ابراهيم، كما كان في الامن العام وقبله في الجيش، في خدمة وطنه وابناء شعبه، له مكانته المحفوظة لدى الطائفة الشيعية وان كان بعض النافذين فيها قطع الطريق على الاستفادة من حضوره ودوره وخبرته في خطوة تذكر بقول للشاعر ابن سهل الاندلسي ذهب مثلا من امثال العرب:" كاد المريبُ بان يقول خذوني"!.