كان يمكن ان يكون تدشين المقر الجديد لسفارة الجمهورية الاسلامية الايرانية في بيروت قبل ايام، حدثا ديبلوماسيا عاديا يحضره عدد من الوزراء والنواب واركان السلك الديبلوماسي واصدقاء السفارة والعاملين فيها.... الا ان مشاركة الرئيس نبيه بري شخصيا في الاحتفال جعلت منه حدثا يتجاوز تدشين مبنى سفارة، لانه حمل ابعادا سياسية جديرة بالمتابعة لاسيما وانها تتزامن مع ازمة سياسية كبيرة تكاد تتحول الى ازمة نظام مع استمرار الشغور الرئاسي الذي دخل شهره الرابع. واذا كان لكلام الرئيس بري عادة الصدى الواسع في الاوساط السياسية اللبنانية، فان ترداده امام وفد ايراني رفيع حضر الى بيروت للمشاركة برئاسة نائب وزير الخارجية ورئيس الوفد الايراني المفاوض في الملف النووي" علي باقري كني"، يعطيه مدلولات كثيرة، علما ان بري كان يتفادى دائما ان يظهر علاقته المميزة مع طهران تاركا هذه " المهمة" لحزب الله وقيادته. في بعض ما قاله الرئيس بري ما اعتبر رسالة الى المسؤولين الايرانيين، وفي البعض الاخر الى سفراء الدول الاوروبية والولايات المتحدة ومن يدور في فلكهم من لبنانيين وغير لبنانيين، وفي البعض الثالث الى الاطراف المحللين لاسيما المعنيين منهم بالاستحقاق الرئاسي. من هنا لا بد من قراءة كلام بري بتأن لاسيما عندما حض اللبنانيين جميعا ان يثبتوا عمليا انهم " سياديون" بالمعنى الكامل والفعلي بحيث يتصرفون" وفق المصالح الوطنية العليا لا وفق توجهات الخارج لكي يثبتوا اننا قد بلغنا سن الرشد الوطني والسياسي ونملك الجرأة والقدرة والمسؤولية الوطنية والمناعة السيادية لاقامة توافق وانجاز استحقاقاتنا الداخلية والدستورية بما يتلاءم مع مصلحة لبنان وتطلعات ابنائه". واستكمل بري كلمته وما فيها من رسائل بالدعوة الى "كلمة سواء تثبت اننا قادرون على خوض الغمار... فهل نحن فاعلون".
مصادر مطلعة سألت لماذا قرر الرئيس بري حضور تدشين المبنى الجديد للسفارة الايرانية وهو الذي يغيب عن مناسبات اكثر اهمية ورمزية بحجة الاعتبارات الامنية التي تحد من تنقل غالبية السياسيين والمسؤولين اللبنانيين. ثم لماذا اختار ان يتحدث عن الاستحقاق الرئاسي مستعملا عبارة " سياديين" الذين لا يعملون وفق توجيهات الخارج؟ تجيب المصادر نفسها ان الرئيس بري شعر في الاونة الاخيرة بالحاجة الى تفعيل حضوره السياسي وفق المسار الذي يراه هو مناسبا لخياراته، سواء في ادارته لمجلس النواب، وجلسات الانتخاب والجلسات التشريعية، او في الحد من " مضار" التوازن الذي نشأ داخل مجلس النواب بعد الانتخابات الاخيرة في ايار( مايو) 2022 والتي حملت الى المجلس النيابي قوى جديدة بين مستقلين و" تغييريين" ومعارضين لما يطلقون عليه توصيف" المنظومة". ولعل ما حصل في جلسات مجلس النواب المتتالية منذ الانتخابات النيابية من فرز في الاصطفافات ثم في المواقف السياسية ما جعل الرئيس بري يشعر بان ثمة حملة تستهدفه يتجمع للمشاركة فيها عدد من النواب الجدد و" التغييريين" المستقلين، فقرر ان يخرج من "هدوئه" ومن بعده عن المواجهات، المباشرة التي كان يتولاها نواب"كتلة التنمية والتحرير" ليقول للقاصي والداني انه من الصعب تجاوز رئاسة المجلس اولا، ونبيه بري ثانيا.وعليه دخل" ابو مصطفى" في صلب المواجهة فدعا الى الحوار لتسهيل انجاز الاستحقاق الرئاسي من خلال توافق سريع وجدي على رئيس لا تنطبق عليه صفة الاستفزاز والتحدي، فاطلق دعوتين الى طاولة الحوار لانقاذ المواقف قبل فوات الاوان، مراهنا على ان " صديقة" رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط سيكون الى جانبه في هاتين الدعوتين.
من يضع العصي في مبادرات بري الرئاسية؟
وتقول المصادر نفسها ان التطورات تسارعت بعد الجلسة الحادية عشرة التي لم تنتج رئيسا، اظهرت للرئيس بري ان المشهد بدأ يختلف وان ثمة من يضع العصي في دواليب مبادرته التوفيقية وتوجهاته الانقاذية. من هذه التطورات المبادرة التي حملها جنبلاط إليه وإلى آخرين وجوهرها الحقيقي طرح انتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون لملء الشغور الرئاسي، وهو تطوّر نوعي في توجّه قصر المختارة التاريخي المعارض لترئيس قائد الجيش بما أقنع بري بأن حليفه لم يعد معه على الموجة نفسها. ثم الاعتصام في حرم الجلس الذي مشى به النائبان ملحم خلف ونجاة عون صليبا كان يعبّر عن توجهات "كتلة التغيريين"، اضافة الى موجة حراك مسيحي عالية المستوى تسندها إرادة روحية وسياسية أعلت الصوت لدرجة أنها وضعت الآخرين أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن تصرفوا النظر عن الرئاسة وتتركوا الملف لنا وإما المضيّ الى الحد الأقصى أي رفع لواء الدعوة الى فصم عرى الشراكة الوطنية، وفي هذا ما فيه من استعادة لخطاب وجد من يروّج له إبان سني الحرب الأهلية. ويروي زوار عين التينة أن بري استشعر أن ثمة من يسعى لمقاطعة مسيحية معلنة له خصوصاً بعدما سمع من بكركي ثلاث خطب تحاصره بتهم سوء الإدارة لجلسات الانتخاب وتعمّد إطالة أمد الفراغ فيما سارع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الى فتح باب التساجل معه على مصراعيه ليقطع آخر قنوات الاتصال بينهما كما رفع "التيار الوطني الحر" من نبرة عداوته الدائمة له. وبناءً على كل هذه المعطيات استشعر بري أنه لم يعد مجدياً البقاء على نهج المرونة والسلاسة وأنه بات لزاماً عليه أن يردّ ليذكّر المعنيين بأن كل هذا المسار إنما هو عدمي وعبثي وأن الخطوة الأولى في مسار الإنقاذ الطويل تبدأ بـ"تعالوا الى كلمة سواء" وفق ما ردّد في خطابه في السفارة لكي "نثبت وإياكم أننا بلغنا سن الرشد حيث يتعيّن أن نحرر ذواتنا من الوصايات".وثمة من يرى أن بري أتى بكلام هو الوجه الآخر للكلام التصعيدي الذي أطلقه "حزب الله" في الأيام الأخيرة على لسان رئيس كتلته النيابية محمد رعد وعضو الكتلة حسن فضل الله وفيه أن "لا تراهنوا على إطلاق الضجيج وإعلاء الصوت فثمة ثوابت لا تبيح إنزال رئيس جديد من هذا الفريق أو تلك العاصمة فالأمر لن يحصل ولو اجتمعت الدنيا كلها". وعتبر الموقفان معاً (بري ورعد وفضل الله) وفق الفريقين بمثابة حائط صدّ في وجه كل المراهنين، ليس ضد الثنائي الشيعي فحسب بل ضد حلف سياسي يتكوكب حول هذا الثنائي( الذي يأمل ان يلاقيه الفريق الاخر في منتصف الطريق).
في اي حال، من الواضح ان الرئيس بري لن يستسلم، بل هو ليس في وارد ذلك، من هنا اتى كلامه في السفارة الايرانية للتأكيد على ان ما من احد يستطيع تجاوز دوره في اي استحقاق، سواء كرئيس لمجلس النواب او كرئيس لكتلة نيابية وازنة تشكل مع كتلة حزب الله، الحضور الشيعي الوحيد في مجلس النواب الذي لا يمكن الاستهانة به او الحد من تأثيره في الحياة السياسية اللبنانية. وتأتي مبادرة الرئيس بري الى الدعوة الى عقد جلسة تشريعية خلال الايام القليلة المقبلة كترجمة واضحة وعملية للنهج الذي ينوي بري اعتماده في الاتي من الايام!