تفاصيل الخبر

اكتشف بري مقاطعة مسيحية لطاولة الحوار فصرف النظر عنها تاركا الاستحقاق الرئاسي في مهب الريح

03/11/2022
اكتشف بري مقاطعة مسيحية لطاولة الحوار فصرف النظر عنها تاركا الاستحقاق الرئاسي في مهب الريح

الرئيس نبيه  بري

 

ماذا جرى بين يوم الثلاثاء في الاول من شهر تشرين الثاني ( نوفمبر) الجاري، حين كان الرئيس نبيه بري يتحدث بحماسة عن الحوار الذي دعا اليه لمواجهة الاستحقاق الرئاسي، ويوم الاربعاء في الثاني من الشهر نفسه، حين الغى بري مبادرته الحوارية متحججا بتحفظ او رفض من " القوات اللبنانية" و" التيار الوطني الحر"؟ سؤال شغل الاوساط السياسية اللبنانية التي كانت تعلق اهمية على دعوة بري للخروج من حالة الاستعصاء في ما خص انتخابات رئاسة الجمهورية، والتي حاولت معرفة الاسباب التي دفعت رئيس مجلس النواب الى التراجع عن خطوته، علما ان ثمة معطيات كانت اشارت ان هذه الدعوة ولدت ميتة على رغم عدم تحديد توقيت لها اذ اكتفى بري بتأخيرها الى ما بعد انتهاء ولاية الرئيس العماد ميشال عون. المطلعون يقولون ان بري شعر في الايام التي تلت دعوته ان ثمة من لا يريد لطاولة الحوار ان تنعقد، في وقت كان آخرون يتساءلون عن اهداف الدعوة اليها، ليتبين ان الطريق لم تكن معبدة وذلك من خلال مؤشرات عدة لعل ابرزها الاتي:

اولا: صدور كلام عن الرئيس عون بان الحوار ليس من مسؤولية رئيس المجلس النيابي لاسيما وانه من خلال ترؤسه لحركة " امل" يعتبر طرفا في الانقسامات السياسية في البلاد ولا يمكن اعتباره محايدا في طرح مسألة حساسة مثل انتخابات رئاسة الجمهورية. واقترح عون ان يستبدل الحوار بــ " التشاور" الثنائي مع اركان الكتل النيابية الممثلة في مجلس النواب، لان مثل هذا التشاور يكون اكثر صراحة في مقاربة الموضوع، في حين ان الحوار الجماعي يغرقه في المزيدات حينا، وفي المطالب التعجيزية احيانا. وفي هذا السياق ياخذ عون على عدد من رؤساء الكتل عدم تجاوبهم مع الدعوات التي وجهها يوم كان رئيسا للجمهورية للمشاركة في حوار حول الاوضاع الاقتصادية حينا، والتطورات السياسية احيانا. ولم يخف عون حذره من مبادرة بري التي اتت في ذروة الخلافات بينه وبين رئيس المجلس الذي وجه اليه انتقادات لاذعة في مقابلته التلفزيونية الاخيرة استوجبت في اليوم التالي حملات عنيفة شنتها محطة nbn التي يشرف عليها بري تلتها سلسلة مواقف سلبية صدرت عن نواب من حركة " امل" ابرزهم المعاون السياسي لبري النائب علي حسن خليل.

 

ثانيا: الموقف الذي اعلنه رئيس " التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل رافضا فكرة الحوار مع " اللي عم يسبونا ويشتمونا وينتقدونا"  دائما، في ترجمة واضحة للعلاقات غير المستقرة في الاصل بين العونيين وحركة " امل" على خلفية سخونة حملات الردود الاخيرة التي دلت الى نهج تصعيدي في الاتي من الايام على خلفية عدم الاتفاق على مسار ايجابي للاستحقاق الرئاسي.

 

ثالثا: بروز " ملاحظات" لــ " القوات اللبنانية" على دعوة بري من خلال مواقف صدرت عن رئيس " القوات" سمير جعجع وعدد من نواب  كتلة " الجمهورية القوية"، تركزت خصوصا حول توقيت الدعوة الى الحوار، فيما الافضل- حسب " القوات"- المضي في اجراء  الانتخابات الرئاسية والدفع في اتجاه تأمين خلف للرئيس عون في قصر بعبدا.

رابعا: عدم ظهور حماسة لدى عدد من النواب السنة حيال دعوة بري بدليل عدم صدور مواقف وازنة تؤيد انعقاد طاولة الحوار في الوقت الراهن.

خامسا: برودة قابلت بها بكركي دعوة بري الى الحوار لان الاولوية في رأي البطريرك الراعي هي لانتخاب الرئيس.

ويبدو ان الرئيس بري اجرى تقييما هادئا للمواقف المعارضة التي صدرت وتلك التي لم تصدر وهو كان يتوقع صدورها، فاتخذ قراره بصرف النظر عن الدعوة واصدر مكتبه الاعلامي موقفا واضحا في هذا الصدد. وهو فوجىء  للتبدل الذي حصل في موقف " التيار" و" القوات" على حد سواء، علما انه كان سمع كلاما ايجابيا حيال المشاركة من النائب باسيل عندما زاره في عين التينة لاطلاعه على المبادىء الرئاسية التي وضعها " تكتل لبنان القوي " للاستحقاق الرئاسي، اضافة الى ذلك فوجىء بري بموقف جعجع الذي لم يلاقي دعوته بحجة ان " القوات" ترى ان المكان الوحيد لبلورة عملية الانتخاب هو التوصل الى انتخاب رئيس تحت قمة البرلمان. وسمع بري كلاما " قواتيا" واضحا بان الجو الضاغط في البلاد لا يحتاج الى طاولات حوار ولا مناقشات، بل يتطلب التعاطي بجدية مع الاستحقاق الدستوري بحسب اصول الانتحاب وعقد جلسات مفتوحة من دون توقف. لكن ما ازعج بري خصوصا المواقف المتناقضة التي صدرت عن مصادر في " التيار" تزامنت مع سخونة السجالات التي نشأت مع حركة " امل" لم يشأ بري بادىء الامر الدخول فيها خصوصا من خلال اغفال دوره في انجاز ترسيم الحدود البحرية الجنوبية.

تاريخ طاولات بري الحوارية

اذن طاولة الحوار التي كان روج لها الرئيس بري لم تعد موجودة والاسباب معروفة، علما انه عندما كان بري تحدث عنها، برز ارتياح في الوسط السياسي لانها ليست المرة الاولى التي يعلن فيها بري عزمه على الدعوة الى طاولة حوار وطني في عين التينة. ذلك ان بري عندما خطر له ان يوجه في صيف العام 2006 كان لبنا تحت وطأة ازمة سياسية مستعصية وانقسام حاد بين معسكرين يراهن كل منهما ان يحقق فوزا كاسحا على الاخر يفضي الى الغائه ان امكن انطلاقا من الصراع الذي اندلع حينها على خلفية اغتيال الرئيس  الشهيد رفيق الحريري وما تلاه من تداعيات. و في ذلك الصيف الساخن حقق بري إنجازاً عُدّ يومها حميداً إذ جمع زعماء الصراع الى طاولة مستديرة واحدة. تجشّم الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله عناء الخروج من الضاحية الجنوبية وحضر الى وسط بيروت (ربّما للمرة الثانية إذ كانت الأولى في 14 شباط(فبراير) من العام السابق)، وكذلك فعل الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وآخرون.لااحقاً تنبّه فريق 14 آذار، وكان يومها في ذروة صعوده، الى أن هذه الدعوة أقرب ما تكون إلى عملية استدراج الى الفخّ بغية احتواء هجمته الشرسة على "بقايا النظام السوري" المحاصر بتهمة المسؤولية عن جريمة العصر، فيما بدا نصرالله أنه قطب الرحى في الطاولة. وثمّة في الفريق من تحدّث عن أن نصرالله استغل هذه الطاولة ليفتح باب المواجهة مع إسرائيل في تموز من ذلك العام.

ومع كل هذه الاعتراضات والملاحظات فإن الأطراف أنفسهم لم يتخلفوا عن تلبية دعوة بري الى الطاولة الثانية التي نصبها في عين التينة بعد الشغور الرئاسي الذي بدأ فور خروج الرئيس إميل لحود من قصر بعبدا منهياً ولايته. بعدها تخلى بري عن مهمة الدعوة الى مثل هذه الطاولة وإدارتها فتلقفها خلفه الرئيس ميشال سليمان ثم الرئيس ميشال عون كلٌّ لغاية في نفسه ولا سيما الرئيس سليمان الذي استغلّها لـ"حشر الحزب"، إن كان عبر طرح الاستراتيجية الدفاعية أو عبر طرح "الحياد والنأي بالنفس" (إعلان بعبدا).

بناءً على هذه السردية المختصرة لعلاقة بري مع طاولة الحوار يتجدّد السؤال عن  ابعاد القطبة المخفيّة من تجشّم بري عناء العودة الى إقامة هذه الطاولة وهو المدرك يقيناً أنها عبارة عن مغامرة غير مضمونة النتائج وربما غير مأمونة النجاح؟ ويشرح مطلعون ان بري كان اراد الاقدام على هذه الخطوة لانه ليس من النوع الذي يخبط خبط عشواء في السياسة ولا يطلق دعوة من دون أن يكون على بيّنة من مقدّماتها ونتائجها وما يترتب عليها. لذا تمسي محاولة استشراف ما يريده رئيس السلطة التشريعية مشروعة من إطلاق مثل هذه الدعوة في مثل هذه الظروف.لا ريب في أن بري يدرك كما كل الراصدين للشأن اللبناني أن الظروف والمعطيات التي كانت أباحت له الدعوة الى الحوار الأول تختلف كثيراً عن الظروف والمعطيات التي تراكمت أخيراً.فالبلاد في أوج الأزمات وفي ذروة الانقسامات لدرجة العجز عن انتخاب رئيس جديد يحول دون شغور مفتوح. ولكن الثابت أيضاً أن الـ16 عاماً التي انقضت على حوار عام 2006 جرت فيها مياه كثيرة تحت جسر السياسة الداخلية والخارجية، بل ثمة من يجرؤ على القول إن ثمة قطعاً بين تلك المرحلة والحالية. ي طاولة حوار عام 2006 كانت الشيعية السياسية تبدو محرجة وقلقة وتبحث عن ملاذات وحصون فكانت صاحبة مصلحة أولى في الانعقاد، فيما كانت السنّية السياسية في ذروة هجومها وتمدّدها تقبض بيد من حديد على زمام الأمور في شارعها خصوصاً بعد انتخابات عام 2005 وهي في رحلة استثمار هذا التحوّل الجذري في المشهد السياسي. أما "التيار الوطني الحر" فبدا يومها برغم اكتساحه النيابي في جبل لبنان منبوذاً ويتلمّس فرصة إثبات الذات والحضور ولا سيما وقد انطلق في تفاهمه مع "حزب الله"، فيما "القوات" كانت أيضاً تتلمّس فرصة الخروج الى الواجهة وإثبات الحضور بعد خروج زعيمها من السجن. أما الآن فثمّة معطيات ووقائع مغايرة، فـ"حزب الله" استحال قوة محلية وإقليمية لا تخشى الإلغاء والمحاصرة، فيما الساحة السنية لا تجد من يجرؤ على التحدّث باسمها والقول إنّه يمثّل شتاتها. والأهم أن "القوات" تجد نفسها أكبر من تُدعى فتلبّي لكونها تعيش بفائض القوّة بعد العدد من المقاعد التي حصلت عليها في الانتخابات الأخيرة، لذا فالأرجح أنها ستتحفّظ عن هذه الدعوة. وليس خافياً أن دعوة بري الى طاولة حوار كانت اتت في وقت تعلن فيه الساحتان السنية والمسيحية هواجس متأصلة من مثل هذه الدعوات لكونها تثير مخاوفها الكامنة من يوم يمس فيه اتفاق الطائف أو تجرّ فيه البلاد الى مثالثة. ومصداق ذلك تلك الحملة الحادة على دعوة كانت سويسرا في صدد توجيهها لعقد حوار بين أطراف لبنانية في جنيف تحت شعار أنها تستبطن خطر المساس باتفاق الطائف. صحيح أن الرئيس بري  كان قد حصر مبكراً دعوته ببند حصري هو انتخاب الرئيس الجديد وإزالة العوائق الحائلة دون ذلك، فإن ذلك على بلاغته لا يبدّد الهواجس والاستنفارات الرافضة والمتهيّبة التي يبديها البعض حيال أي إشارة يُستشفّ منها فتح الباب أمام أي تطوير أو تعديل في منظومة الحكم الحالية وأساسها اتفاق الطائف المعقود في عام 1989. وهذا ما شكل سببا مباشرا لتأجيل بري دعوته الى الحوار!.