بقلم خالد عوض
بينما ينشغل العالم بالحرب الدائرة في أوكرانيا ويترقب الربيع الآتي لأن الطرفين المتصارعين هناك يتوعدان بعضهما الآخر قريباً بهجوم كاسح ماسح، يزداد الإهتمام بأفريقيا لأسباب ليست بعيدة عما يحصل في أوكرانيا. المنافسة ليست محصورة بالكلام المعسول الذي يوجهه للأفارقة كل من الصين والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وتركيا وإسرائيل ودول غيرها تحاول حجز مقعد لها في القلب الأفريقي. المنافسة هي بالإستثمارات والمنح والعطاءات وصولاً إلى الوجود العسكري المباشر. ما عزز الاهتمام بأفريقيا خلال الأشهر الماضية هو الموقف الأفريقي من الحرب في أوكرانيا الذي صدم الغرب. من أصل ٥٤ دولة أفريقية تصوت في الأمم المتحدة فقط عشر دول أيدت قرار إدانة روسيا في نيسان (ابريل) ٢٠٢٢ بينما فضلت ٣٥ دولة إما التغيب أو الإمتناع عن التصويت وصوتت ٩ دول ضد القرار.
العبور بالدولار
في منتصف كانون الثاني (يناير) المنصرم استضافت العاصمة الأميركية "واشنطن" مؤتمر "لقاء أفريقيا" بحضور ٤٩ دولة إلى جانب الولايات المتحدة وتعهد خلاله الرئيس الأميركي "جو بايدن" بتخصيص ٥٥ مليار دولار لأفريقيا في قطاعات عدة تبدأ من دعم القرى وتصل إلى التعاون في الفضاء. على مدى السنوات الماضية حاولت الولايات المتحدة دعم شركاتها لتنال حصة وازنة في المشاريع الأفريقية ولم تترك وسيلة ضغط إلا واستخدمتها لذلك ولكن من دون طائل. سبب فشل الشركات الأميركية هو عدم قدرتها على منافسة الأسعار التي كانت تعرضها الشركات الصينية والتي كانت تصل إلى أقل من نصف المبالغ التي يطلبها الأميركيون. أيقنت الإدارة الأميركية مؤخراً أن ما كانت تقدر عليه في الشرق الأوسط من تسويق للشركات الأميركية لا يمكن تكراره في أفريقيا حتى في الدول النفطية فيها. الوسيلة الجديدة هي الإختراق الناعم عن طريق الدعم المالي المباشر للقطاعات الصحية والعلمية والتعليمية حتى تكسب قلوب الأفارقة. بعد أن تبين لها أن العضلات الدبلوماسية والعسكرية لن تنفع، تلجأ الولايات المتحدة إلى مفتاح جديد في أفريقيا، هو الدولار.
فلسفة التوأمة مع آسيا
أول زيارة قام بها وزير الخارجية الصيني "كين غانغ" هذا العام خارج الصين كانت إلى أفريقيا مثلما فعل كل وزراء الخارجية الصينيين على مدى ٣٣ سنة متتالية. من إثيوبيا أول محطة له عبر الوزير الصيني عن نظرة بلاده الواضحة إلى أفريقيا. بالنسبة للصين هناك تشابه كبير بين آسيا وأفريقيا في مسيرة التحرر من الإستعمار والنمو الإقتصادي ويصح توأمة القارتين بعيداً عن أي تأثير غربي يحمل معه ثقل ماضي الإستعمار والعنصرية. من هذا المفهوم تمكنت الصين خلال ١٣ سنة متتالية أن تبقى الشريك التجاري الأكبر لأفريقيا وقامت الشركات الصينية بإضافة وتحديث أكثر من ١٠ ألف كيلومتر من السكك الحديدية وحوالي ١٠٠ ألف كيلومتر من الطرق، وأكثر من ٩٠٠ جسر، وما يقارب ١٠٠ ميناء، وعدد لا يحصى من المستشفيات والمدارس. صحيح أن الغرب يسوق فكرة اغراق الصين أفريقيا بالديون حتى تنقض على مقدراتها مستقبلاً إلا أن الدول الإفريقية لم تقتنع تماماً بالبروباغندا الغربية رغم حذرها المتزايد من القروض الصينية المشروطة. الصين بنت أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها في "جيبوتي" مقابل باب المندب ولكن يبدو أنها ستستفيد بشكل غير مباشر من نفوذ روسي عسكري متزايد في أفريقيا.
الحلف الروسي الصيني إلى أفريقيا
ظل الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" ينفي علاقته بميليشيا "فاغنر" أمام كل من فاتحه بما تقوم به المجموعة بأفريقيا إلى أن بدأت حرب "أوكرانيا" وتبين أن "فاغنر" تابعة للكرملين مباشرة وأن زعيمها "افجيني بريغوجين" الطباخ السابق لـ"بوتين" هو أداة مباشرة له. المجموعة تأسست عام ٢٠١٤ واختارت اسمها من الموسيقي الألماني "ريشارد فاغنر" وأعضائها من المساجين في روسيا وتحولت بسرعة إلى أداة دبلوماسية وعسكرية وسبرانية لخدمة المصالح الروسية. من سوريا وليبيا حيث لديها مئات المحاربين وصولاً إلى عدة دول أفريقية حيث تساعد بعض الأنظمة ضد مجموعات انقلابية وتعرض عليهم حماية المناجم من المافيات التي تحاول سرقتها، أصبحت "فاغنر" موجودة اليوم في أكثر من ١٠ دول أفريقية. مساحة عملها تبدأ من "مالي" شمالاً حيث ساهمت في إنسحاب فرنسا عسكرياً إلى الغرب في "بوركينا فاسو" والوسط في جمهورية أفريقيا الوسطى وشرقاً في السودان إلى الجنوب في مناطق شمال "موزامبيق" الغنية بالنفط والغاز حيث تحارب "داعش". تمدد "فاغنر" أعطى روسيا دوراً مهماً في أفريقيا ليس فقط للسهر على الأنظمة المتحالفة معها بل أيضاً في إمكانية حماية المصالح الصينية في بعض المناطق التي تعاني فيها الشركات الصينية من خطر أمني.
ماء الوجه
منذ أيام قام الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" بزيارة إلى عدة دول أفريقية لتجديد الإلتزام الفرنسي بالشراكة معها. لا زالت اللغة الفرنسية هو اللغة الرسمية في ٢١ دولة أفريقية وهذا ما يستثمره الفرنسيون في علاقتهم الأفريقية. ولكن هناك شعوراً متزايداً عند الأفارقة أن فرنسا لم تكن صديقة صادقة وأنها تخلت عنهم في عدة مناسبات وكل ما تبحث عنه هو تعزيز مصالحها التجارية. هذا الشعور تنامى مع التمدد الصيني الذي قزم كل المبادرات الفرنسية وتعزز مؤخراً مع حملة "فاغنر" ضد الوجود الفرنسي وترويجها لفكرة تلاقي قبولاً متزايداً عند الأفارقة "الفرنكوفون" وهي أن فرنسا والغرب لم يتخلوا عن أطماعهم الإستعمارية ولكنهم يأتون اليوم بأساليب إقتصادية ناعمة. رغم وعوده وحماسه، أكثر ما يمكن لـ"ماكرون" أن يقوم به هو الدفاع عن النفوذ الفرنسي وليس توسعته. وحتى هذا يبدو مهمة شبه مستحيلة أمام الزحف الدولي الآتي إلى القارة من كل حدب وصوب.
الاهتمام الدولي بأفريقيا أساسه إقتصادي لأن القارة تتمتع بمستقبل واعد من حيث النمو السكاني والإقتصادي. فيه جانب أمني لأن النزوح غير الشرعي من أفريقيا هو هاجس مستمر لاوروبا. ولكن مؤخرا ومع علو الصوت الأفريقي في المحافل الدولية أصبح لأفريقيا دور سياسي دولي يمكن أن يوصلها يوماً ما لحجز مقعد دائم لها في مجلس الأمن، كما لمح "بايدن" منذ شهرين. إلى أن يصل هذا اليوم سيستمر تنافس الغرب والشرق بشراسة لاستمالة القارة الجنوبية، مالياً وإقتصادياً وحتى عسكرياً.