تفاصيل الخبر

مصنع العالم ليس بخير

24/12/2022
مصنع العالم ليس بخير

بقلم خالد عوض

 

قبل جائحة "كورونا" التي ضربت كل العالم وتفتك بالصين حاليا، كانت كل التوقعات الاقتصادية المبنية على دراسات وحسابات وافية للنمو المستقبلي تؤكد أن الصين في طريقها إلى انتزاع الصدارة الاقتصادية العالمية من الولايات المتحدة قبل ٢٠٣٠ وفي أبعد تقدير عام ٢٠٢٩. بعد "كوفيد" أصبحت أكثر الدراسات تفاؤلا بالنمو الإقتصادي الصيني تؤكد أن الولايات المتحدة ستبقى الأولى إقتصاديا حتى عام ٢٠٤٠ على الأقل. إذا كان من نتيجة واحدة واضحة للوباء فهي أنه أخر الصين سنوات بل ربما عقود عن الولايات المتحدة وعزز موقع الأخيرة في ريادة العالم اقتصاديا. 

خسرت الحرب ضد "كوفيد"

في ١٩ كانون الثاني (يناير)من عام ٢٠٢٢ وصل مجموع عدد المصابين اليومي بوباء "كورونا" في كل دول العالم إلى حوالي ٤ مليون مريض، وهذا كان أعلى مستوى يومي منذ اكتشاف الوباء عام ٢٠١٩. في ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) الماضي أي منذ بضعة أيام قدرت السلطات الصينية مجموع المصابين بالوباء داخل الصين وحدها بأكثر من ٣٧ مليون نسمة. تفشي الوباء مؤخراً في الصين مرده إلى أمور كثيرة منها عدم فعالية اللقاحات الصينية ضد "كورونا" وعدم وجود أي شفافية في المعلومات عن عدد المصابين الفعلي وحالة هؤلاء الصحية مما زاد إحتمالات العدوى. كما أن سياسة "صفر كوفيد" التي لا زالت الصين تصر عليها اثبتت فشلها خاصة في المدة الأخيرة بعدما تمرد عدد كبير من الصينيين على إجراءات الإغلاق المفروضة عليهم في ظل تراجع الوباء وعودة الحياة إلى طبيعتها في كل أنحاء العالم. تبدو الصين اليوم دولة فاشلة صحياً لأنها لم تعرف، منذ أن كانت أول من إكتشف الوباء قبل ثلاث سنوات، كيف تتعامل معه ليس فقط على الصعيد الصحي، بل أيضاً اجتماعياً واقتصادياً. 

الرئيس الصيني "شي جين بينج": رهاناته الصحية الخاطئة كلفته الكثير إقتصادياً

 

ماذا عن الحرب ضد التضخم؟

كل دول العالم تعاني من تضخم غير مسبوق نتج بشكل رئيس من إجراءات التحفيز المالي ومن الزيادة القياسية في الكتلة النقدية التي قامت بها معظم المصارف المركزية في العالم. اليوم تتسابق البنوك المركزية في رفع القائدة على عملتها من أجل لجم مستويات التضخم المرتفعة. الصين لم تضطر إلى طبع العملة ولم توزع أموالا على الناس كما فعلت دول كثيرة وهي تعارض مسار التحفيز الكمي الذي اتبعه الغرب. بالنسبة لرئيس البنك المرزكذي الصيني "يي غانغ" يجب الفصل بين السياسة النقدية ومشاكل الأسواق وإلا تفقد المصارف المركزية سمعتها. كل ما فعله البنك المركزي الصيني هو توفير السيولة من خلال قروض قصيرة الأجل إلى الأسواق وهو مستمر في هذه السياسة أي التدخل المحدود كمياً وزمنياً في الحالات الضرورية. كما أنه لم يرفع الفائدة على اليوان للجم التضخم الذي ظل منخفضا نسبيا حتى الآن. فإجراءات الإغلاق ساهمت في تخفيف الطلب على السلع داخل الصين وساعدت في إبقاء الأسعار مضبوطة حتى اليوم رغم تفلتها في كل العالم. ستخرج الصين من الوباء عاجلاً أو آجلاً والمتوقع أن يكون ذلك عام ٢٠٢٣. عندها ستكون أمام الإمتحان الحقيقي للتضخم فالناس، المحاصرة في بيوتها منذ ثلاث سنوات ولو بشكل متقطع، ستخرج منها وتتدفق على كافة أنواع السلع. الارتفاع المتوقع في الطلب الداخلي يمكن أن يؤثر ليس فقط على نسبة التضخم في الصين بل على التضخم العالمي لأن الصين لا زالت مصنع العالم الأول وستتعرض مصانعها التي لا زالت تعمل تحت طاقتها إلى ضغوطات من الصعب تخفيفها بسرعة عبر زيادة الإنتاج. نتيجة حرب الصين ضد التضخم ونجاعة سياستها المالية المخالفة تماما لإجراءات الغرب ستظهر خلال الشهور المقبلة. 

رئيس البنك المركزي الصيني "يي غانغ": لا لرفع الفائدة ولا لطبع العملة لتحفيز الإقتصاد، ما الحل إذاً؟  

 

الإقتصاد الصيني بخير... قليلا

رغم فشل سياسة "صفر كوفيد" في الحد من الوباء وعدم فعالية اللقاحات وسوء توزيعها بين الفئات العمرية لا يزال الإقتصاد الصيني ينمو ولم يتعرض للإنكماش كما حصل في معظم دول العالم. ولكن النمو المتوقع لعام ٢٠٢٢ لن يصل حتى إلى ٣ بالمئة. آخر توقع للنمو لسنة ٢٠٢٢ كان ٢,٦ بالمئة أي أكثر بقليل من عام ٢٠٢٠ وهو عام الجائحة. هذه النسب لم تشهد مثلها الصين منذ عام ١٩٧٦ عندما إنطلق إقتصاد الصين في مسيرة نمو مطرد ظل يلامس ١٠ بالمئة سنويا ووصل حتى إلى ١٥ بالمئة مما نقل الصين من دولة بالكاد يصل ناتجها المحلي إلى ١٥٠ مليون دولار في منتصف السبعينات عندما كان الناتج المحلي للولايات المتحدة حوالي ٩ آلاف مليار دولار (أي أكثر من ٦٠ ضعفا) إلى قوة إقتصادية عالمية ناتجها يزيد عن ١٨ ألف مليار دولار مقابل ٢٢ ألف مليار دولار للولايات المتحدة. هذا المسار تباطأ جداً منذ ٢٠٢٠ بسبب الجائحة من جهة وبسبب أيضا بعض المشاكل البنيوية في الإقتصاد الصيني مثل سوء الإدارة في شركات صينية خاصة في مجال العقارات وتراخي الدولة مع ديون القطاع الخاص التي أصبحت تناهز ٤٠ ألف مليار دولار أي ٢٠٠ بالمئة من الناتج المحلي، ناهيك عن الديون الفردية التي تخطت ١١ ألف مليار هذا العام . حجم الدين الداخلي الصيني قنبلة موقوتة فهو من جهة يهدد النمو الإقتصادي ومن جهة أخرى يكبل البنك المركزي الصيني الذي لا زال يرفض مبدأ التحفيز الكمي كما يتردد في أي رفع للفائدة تجنبا لإفلاس مئات الشركات الصينية. 

 

إذا كان هناك من ضحية غير بشرية واحدة لوباء "كورونا" فهي الإقتصاد الصيني. دولة كانت تعد نفسها والعالم بأن تصبح الأولى إقتصادياً خلال سنوات ادخلها "كوفيد" في حسابات "حيص بيص" لن تخرج منها قبل عقود.