تفاصيل الخبر

لن يتحاربا

01/04/2023
لن يتحاربا

بقلم خالد عوض

 

بين عامي ١٩٤٥ بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية و١٩٩٠ سنة انهيار الاتحاد السوفياتي عاش العالم كل أشكال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وغريمها السوفيات، ولكن خلال كل هذه الفترة لم يتواجه الطرفان مباشرة ولم تتحول حربهما الباردة، رغم احتدامها عدة مرات، إلى مواجهة عسكرية مباشرة. كانت هناك خطوط حمر وضعها الطرفان كما كان هناك الهاتف الأحمر الذي يربط بين زعيمي الدولتين لفك الألغام التي كانت تظهر امامهما. رغم كل ما يقال عن مواجهة أميركية صينية ممكنة خلال السنوات المقبلة الأرجح أن تحكم قطبي العالم الجديد الضوابط نفسها التي منعت أي حرب بين السوفيات والأميركيين على مدى نصف قرن. زيادة عن ذلك فإن المصالح المترابطة بين الولايات المتحدة والصين تجعل الحرب المباشرة بينهما شبه مستحيلة.

 

الولايات المتحدة تعبت من الأحادية

الأزمات الداخلية المتتالية، المالية والاجتماعية وحتى الثقافية، التي تعاني منها الولايات المتحدة والتي تحولت إلى إنقسامات عامودية داخل المجتمع الأميركي أصبحت تستهلك الكثير من أي إدارة تأتي إلى البيت الأبيض. ورغم ضخامة المؤسسات في الولايات المتحدة ووجود عشرات مراكز الأبحاث التي تستفيض في البحث عن السياسات الخارجية الأكثر جدوى فإن مراجعة سياسة الولايات المتحدة الخارجية منذ ربع قرن تؤكد أنها تنتقل من فشل إلى آخر. حتى أن التعبير "الولايات المتحدة تخسر كل الحروب التي تخوضها والصين تكسب الحروب من دون أن تحارب" أصبح واقعاً يلمسه العالم كل يوم. الأسباب كثيرة، منها عدم قدرة السياسة الخارجية الأميركية على فهم الفروقات الثقافية الكبيرة عند الشعوب ومحاولة تصدير قيمها إلى دول العالم. كما أن تداخل مصالح "لوبيات" السلاح والشركات الأميركية الكبيرة الأخرى تؤثر سلباً في سياسة الولايات المتحدة الخارجية وتفرض عليها اجندات لم تكن بالضرورة في صالح الأميركيين على المدى الطويل. هناك تعب أميركي اليوم من إدارة العالم بآحادية وهناك قناعة أميركية متزايدة أن صعود الصين إلى المحفل الدولي يمكن أن يكون عاملاً مساعداً بل هو حاجة لتحقيق مصالحها الإقتصادية.

الرئيسان الأميركي "جو بايدن" والصيني "شي حين بينغ": تحالف العدوين

 

الصين تتسلح كي لا تحارب

رغم الزيادة الكبيرة في ميزانيتها العسكرية لا تزال الصين تنفق أقل من ثلث ما تخصصه الولايات المتحدة لموازنة الدفاع. ومهما كبرت قوة الصين العسكرية لن تتمكن من اللحاق بالحجم والكفاءة والتكنولوجيا العسكرية الأميركية على الأقل في المدى المنظور. العضلات العسكرية الصينية ليست لتحدي الأميركيين بقدر ما هي لفرض هيبتها الإقليمية في جنوب شرق آسيا. وبنفس منطق سور الصين العظيم يبقى دور الترسانة العسكرية الصينية، المتعاظمة نووياً وبراً وبحراً وجواً، دفاعياً وردعياً أكثر منه هجومياً. ما يحمي الصين حقيقة من أي حرب أميركية مباشرة عليها هو تداخل المصالح بين الدولتين مما يجعل من المواجهة العسكرية بينهما الطريق السريع إلى الانتحار المزدوج.

"تيم كوك" رئيس شركة "آبل" في آخر زيارة له للصين منذ أيام: لا تزال الصين السوق الاستراتيجي

 

ما يجمع أكبر بكثير

العلاقات التجارية الأميركية الصينية تطورت بشكل كبير خلال العشرين سنة الأخيرة. الصين هي الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة بحجم تبادل تجاري سيصل إلى أكثر من ٧٥٠ مليار دولار هذا العام منها حوالي ٥٥٠ مليار دولار صادرات من الصين وحوالي ٢٠٠ مليار دولار من الولايات المتحدة إلى الصين. تشكل صادرات الصين إلى الولايات المتحدة أكثر من ١٥ بالمئة من مجموع صادراتها ورغم كل محاولات الصين لتوسعة قاعدة صادراتها يظل السوق الأميركي هو الأول والأهم بالنسبة لها. كذلك بالنسبة للشركات الأميركية لا تزال الصين الهدف الاستثماري الأكبر لها إذ يصل حجم الاستثمارات الأميركية في الصين حوالي ١٥٠ مليار دولار مقابل حوالي ٤٠ مليار دولار استثمارات صينية في الولايات المتحدة. ورغم كل الخطوات التجارية التصعيدية التي قام بها الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب" من فرض رسوم جمركية على بعض البضائع الآتية من الصين ومنع عدة شركات صينية من الدخول إلى الأسواق الأميركية، وبالمناسبة لم يتراجع عن أي واحدة منها "جو بايدن"، تزايد نمو الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة ونما حجم التبادل التجاري بينهما إلى مستويات قياسية عام ٢٠٢٢، حتى الكلام أن الشركات الأميركية بدأت تنتقل إلى "فيتنام" والهند خوفا من تدهور العلاقات الأميركية الصينية، ظل محصوراً بعدة شركات فقط إذ أن البنية التحتية الصناعية الصينية أكبر بكثير من أن تضاهيها أي بنية تحتية أخرى، بالإضافة إلى كل ذلك تعتبر الشركات الأميركية الصين من أهم اسواقها وليست فقط قاعدتها الصناعية الأولى.

 

الدولار شر لا بد منه حتى إشعار آخر

هناك كلام كثير أن الصين تحاول استبدال الدولار باليوان وتسعى لإقناع شركائها التجاريين بضرورة التخلي عن الدولار في التبادلات معها. هذا صحيح. السبب الرئيس لذلك هو أن الصين هي أكبر حاملي سندات الخزينة الأميركية بعد اليابان إذ تستحوذ على أكثر من ٨٧٠ مليار دولار منها هو ما يساوي ٣ بالمئة من الدين العام الأميركي ولا تريد أن يستمر هذا الرقم في النمو. لذلك تحاول تنوع عمليات التجارة الخاصة بها بعيداً عن الدولار لتخفيف ارتباطها العضوي به، مع علمها أن العملة الخضراء ستظل تمتلك الحصة الأسد في التعاملات المالية العالمية في المدى المنظور.

 

لم يكن هناك هذا الكم المهول من المصالح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كما هو الحال مع الصين اليوم. ورغم ذلك لم يتواجه القطبان مباشرة على مدى نصف قرن. ورغم سعي الصين إلى زيادة دورها الدبلوماسي في العالم والتأثير في الشؤون الدولية بشكل يتعارض أحياناً مع المصالح الأميركية الاستراتيجية في بعض المناطق مثل الشرق الأوسط وأفريقيا وبالرغم من الآفاق الطموحة جداً لمبادرة حزام وطريق الحرير التي تهدد المصالح الأقتصادية الأميركية، فإن العلاقات التجارية والمالية والاقتصادية الوثيقة بين القطبين الجديدين تجعل من الممكن إدارة التوترات بشكل فعال وببراغماتية متناهية تحول دون أي مواجهة بينهما.