بقلم خالد عوض
القواسم المشتركة بين سريلانكا ولبنان كثيرة. طبقة سياسية غير مؤهلة لقيادة الدولة نحو المستقبل وفساد مستشر على كافة المستويات وسوء إدارة لموارد الدولة ودين يولد دينا وعملة وطنية تتهاوى وإحتياطات مالية أجنبية تتبخر. ولكن هناك قاسم مشترك جديد بين البلدين المنكوبين إقتصاديا وسياسيا، ومع بلدان عديدة أخرى تعاني من مشاكل شبيهة، ينبئ بنظام عالمي جديد بقطبين أو ربما ثلاثة.
الصين بريئة؟
ليس دقيقا القول أن الصين هي التي أغرقت سريلانكا بالديون وأن سبب أزمتها الكبيرة اليوم هو سياسة الصين التي تقضي بإغراق الدول الفقيرة بالديون حتى تستولي على أصولها ومواردها فتوسع أمامها طريق وحزام الحرير. دين سريلانكا للصين لا يتعدى ١٠ بالمئة من مجموع دينها العام الموزع على البنك الدولي وصندوق النقد ومؤسسات مالية معظمها غربية. أزمة سريلانكا هي نتيجة تراكم سياسات خاطئة أهمها قرار منع إستيراد الأسمدة لمدة سنتين لتخفيف فاتورة الإستيراد ولوقف خروج العملة الأجنبية من البلد. هذا أضعف إنتاج سريلانكا الزراعي وحرمها بالتالي من مداخيل كبيرة زاد عجز موازنتها. في موازاة ذلك كان البنك المركزي السريلانكي يدعم العملة بشكل متقطع حتى يمنع الإنهيار المالي مما أدى إلى تبخر الإحتياطي من العملات الأجنبية.
الحق على الروس والأوكرانيين أو على الإمبراطور الأخضر؟
مشكلة سريلانكا الحالية تفاقمت بعد حرب روسيا وأوكرانيا ولم تنفع معها محاولات جارتها الهند لإنقاذها عبر مزيد من الديون. فالعقوبات الغربية على روسيا أدت إلى إرتفاع أسعار النفط والغذاء وأصبحت الدولة عاجزة عن توفير العملات الأجنبية لتأمين إستيراد معظم المواد التي يحتاجها البلد. النتيجة كانت العتمة وإنقطاع المواد الرئيسة في الأسواق وتخلف الدولة عن سداد ديونها وهروب الرئيس بطائرة عسكرية إلى جزر المالديف من دون حتى أن يستقيل. لا شك أن سريلانكا ضحية سياسات داخلية فاشلة قبل أي شيء وهرولتها نحو الديون كانت تغطية لنقاط الضعف الكبيرة في اقتصادها، هذه النقاط ليست محصورة بسريلانكا وحدها. هناك أكثر من ١٤٠ دولة من أصل ٢٠٠ تعاني من عجز في ميزانها التجاري أي تستورد أكثر مما تصدر وبالتالي تخرج منها العملات الأجنبية لتغطية فترة الإستيراد. حتى الإتحاد الأوروبي تحول منذ سنوات إلى كتلة تستورد أكثر مما تصدر وهذا قبل إرتفاع أسعار الغاز. وإذا لم تكن هذه الدول قادرة على جذب الإستثمارات بالعملات الأجنبية فإن ميزان المدفوعات لديها يقع هو أيضا في العجز فتتعرض عملتها إلى الضغط. وبما أن معظم التداول التجاري العالمي هو بالعملة الأميركية التي تحتل ٦٠ بالمئة من الإحتياطات المالية الأجنبية و٧٠ بالمئة من التداولات والتحويلات بالعملات الأجنبية فإن حاجة الدول، التي يعتمد اقتصادها على الإستيراد، إلى الدولار ستبقى أم المشاكل.
مطبعة العملة الأولى ومصنع العالم الأول
ليس الحق وحده على الأميركيين. فالدولارات التي تخلقها الولايات المتحدة لا تعود كلها إليها ويذهب جزء كبير منها إلى مصنع العالم الأول، أي الصين، المحفز الأول للعولمة الإقتصادية والصناعية ولتخفيف الحواجز التجارية. حتى الولايات المتحدة التي تعاني من أكبر عجز تجاري في العالم وصل مؤخرا إلى ٩٠ مليار دولار شهريا وسيتجاوز ألف مليار دولار عام ٢٠٢٢ تغرق الصين بالدولارات بسبب حاجتها إلى المنتجات الصينية الرخيصة نسبة إلى كافة البضائع الأخرى. معظم دولارات العالم، التي تحتاجها كل الدول التي تعاني من عجز في ميزان المدفوعات، هي إذاً بين الولايات المتحدة والصين. الصين تعيد إستثمار الدولارات في مشاريع طريق وحزام الحرير وتستخدمها لإستيراد النفط والغاز بينما الولايات المتحدة تنفق معظمها في الداخل الأميركي.
في ظل هيمنة الصين على الصناعة العالمية وقدرة الولايات المتحدة على خلق الدولار لن تستطيع عشرات الدول، خاصة تلك التي تعاني من مشاكل سياسية هيكلية ومن سوء حوكمة، من تحقيق الإكتفاء الذاتي لا صناعيا ولا تجاريا ولا ماليا وستكون بحاجة متواصلة إلى الديون. الأمثلة لهذه الدول الفاشلة كثيرة والتشابه الكبير بين لبنان وسريلانكا دليل على ذلك.
عالم القطبين
سريلانكا تتطلع حاليا إلى إنقاذ مالي من الصين ينتشلها من أزمتها، الأعمق منذ استقلالها عام ١٩٤٨. ولبنان يأمل أن يفضي إتفاق ترسيم حودده البحرية مع إسرائيل الذي رعته الولايات المتحدة إلى تحول إقتصادي كبير يخرجه من الإنهيار المالي الذي لم يشهد مثله منذ تأسيسه. دول فاشلة كثيرة ستجد نفسها عاجلا أم آجلا في الوضع اللبناني أو السريلانكي ولن يكون أمامها إلا الولايات المتحدة أو الصين، اللتان تتحكمان أيضا بقرارات البنك الدولي وصندوق النقد، لإنقاذها بطريقة أو بأخرى. وبدل أن تنحصر العلاقة بين الولايات المتحدة والصين في منافسة إقتصادية وتكنولوجية شرسة يمكنها أن تتوسع لتقاسم الدول الفاشلة ومساعدتها على تفادي الأزمات. من دون تدخل القطبين الإقتصاديين الأولين في العالم سيتضاعف عدد الدول الفاشلة وتزداد أمواج النزوح وتتمدد المشاكل الإجتماعية إلى ما وراء حدود الدول التي تعاني من مشاكل بنيوية في اقتصادها ومن شلل حكوماتها.
الحرب الروسية في أوكرانيا عجلت في فضح الدول الفاشلة. ومهما كانت نتيجتها فهي ستنتج عالما مختلفا لن تكون فيه روسيا بالضرورة عضوا دائما في مجلس الأمن وستنشغل أوروبا لرأب الصدع التي خلفتها أو كشفت عنها الحرب. العالم اليوم على عتبة واقع متعدد الأقطاب إقتصاديا، تحتل قممه الولايات المتحدة والصين، وربما تنضم اليهما الهند بعد عدة سنوات.