بقلم خالد عوض
يجب الإقرار أولاً أن هذه الصفحة كانت تقدر ما كان يقوم به حاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة على مدى أكثر من 25 عاماً، حتى أنها اطلقت عليه منذ 5 سنوات إسم "رجل ربع القرن الماضي". هذا الرجل كان يحافظ على قرار تثبيت سعر الصرف الذي هو في الأساس قرار السلطة السياسية والاقتصادية ولا يتحمل هو وحده مسؤوليته. كان الحكم على الحاكم مبنياً على الظروف الاستثنائية التي مر بها لبنان منذ سنة 1992 وقد أصبحت معروفة، من الإحتلال الإسرائيلي إلى الخلافات السياسية الداخلية المتواصلة مرورا بالحقبة السورية مع أمثلة الفساد الكثيرة كبنك المدينة وصولاً إلى الاغتيالات وحرب تموز 2006 ثم 7 ايار 2008 (مايو) وتوابعه فالحرب في سوريا والفراغات الطويلة والمتكررة في السلطة. خلال كل تلك الفترة حافظت الليرة اللبنانية على استقرارها رغم شتى أنواع الضغوطات. الحكم على رياض سلامة اليوم ليس محصوراً بإنهيار سعر الصرف، الذي مهما ألصقت اسبابه بسلامة فهو لا يتحمل وحده مسؤوليته. الحكم على الحاكم اليوم هو بمنظار آخر.
لا علاقة لنساء سلامة
لا علاقة للناس بحياة رياض سلامة الخاصة. أحب من أحب أو صاحب من صاحب. ولا علاقة لأحد إذا كان لرياض سلامة أولاد في أوكرانيا أو في باريس. وربما يصلح هنا مقاربة حياة حاكم البنك المركزي اللبناني الخاصة كما تفهم الفرنسيون حياة رؤساء جمهوريتهم من "فرانسوا ميتران" إلى "فرانسوا هولاند". ولذلك محاولة وصول القضاء اللبناني أو الأوروبي إلى رياض سلامة من خلال "ماريان حويك" أو "آنا كوزاكوفا" أو "ستيفاني صليبا" ليس الطريق الصحيح، إلا إذا كانت تلك النسوة شريكات في أعمال سلامة. إذاً الحكم على رياض سلامة لا علاقة له بحياته الشخصية أو بعلاقاته النسائية أو على الأقل يجب أن لا يكون كذلك. أما عمليات سلامة الخاصة وتضارب المصالح من خلال شركة "فوري" وتحويل أمواله الخاصة في عز هندساته المالية، كل هذا يجب أن يحاسب عليه الحاكم ويقاضى ولكنه ليس المشكلة الحقيقية.
الناس برأوا السلطة السياسية بصوت بارد
دفاعاً أيضاً عن الحاكم لا يمكن تبرئة السلطة السياسية منذ التسعينات من انهيار البلد. وما حصل في ربيع عام 2022 خلال الإنتخابات النيابية الأخيرة محبط جداً . فالسلطة نفسها حصلت على براءة ذمة شاملة عن كل موبقاتها خلال ثلاثين عاماً من معظم الناخبين اللبنانيين. ومهما قيل عن الاختلال الموجود في قانون الإنتخابات والذي يسمح لأحزاب السلطة التحكم باللعبة الإنتخابية إلا أن أي قانون كان سيعيد إلى مجلس النواب معظم المسؤولين عن بشاعة النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي وصل إليها لبنان. عندما يعيد الناس إنتخاب ممثلين لهم هم يعرفون أن معظمهم مسؤول عما وصل إليه البلد إما بالتورط المباشر أو بشهادة الزور فالعيب هو على الناخبين قبل أن يكون على رياض سلامة.
الطمأنة واجب وليست خطيئة
بالاضافة إلى ذلك لا يمكن لوم الحاكم أنه قال أن الليرة بخير عندما كان يعرف تماماً أنها ليست كذلك، أو عندما كانت التقارير الدولية تنبئ بقرب إنهيار النموذج المالي اللبناني الذي عاش منه وعليه رياض سلامة. دور الرجل هو طمأنة الأسواق والأفراد وإلا يصبح هو المسرع في الإنهيار. وكما يفعل رئيس الإحتياطي الفدرالي الاميركي "جيروم باول" منذ عدة سنوات من خلال تطمينه الأسواق عبر بيانات وتصاريح يتبين بعد ستة شهور من اطلاقها أن معظمها كان في منتهى التضليل، يبقى دور حاكم البنك المركزي في أي بلد هو ضخ الثقة. هذا ما فعله رياض سلامة وما يجب أن يفعله أي حاكم.
الهرم الوهمي
في مقابلة مع "الأفكار" عام 2015 سألناه عن "سر" رياض سلامة وكيف يستطيع المحافظة على سعر الصرف رغم كل الظروف المعاكسة التي يمر بها لبنان. بعد تردد، جاء جوابه مفعماً بالثقة: "المعادلة هي التالية. علي أن استقطب ايداعات وأموالاً جديدة تساوي ثلاثة أضعاف عجز الموازنة السنوي". وعندما سألناه إذا كان واثقاً من القدرة على إستقطاب هذه الأموال بإستمرار والتكيف مع العجز المتمادي للموازنة والانجراف المتواصل للحكومات الفاشلة في إنفاق وهدر وفساد، قال: " لست قلقاً بشأن الإيداعات الجديدة ونقوم بدورنا بإستمرار لحث الحكومة على ضبط الإنفاق". معادلة رياض سلامة التي أقر بها هو نفسه ولم ننتبه يومها إلى خطورتها هي مخطط هرم متكامل (Pyramid Scheme) بالمعنى المالي، أي أخذ أموال جديدة من جهات مختلفة بالإغراء عن طريق الفوائد ورميها في جيوب مثقوبة في جهة أخرى. هذه المعادلة صمدت أكثر من ٢٥ سنة وتمكن من خلالها سلامة من ايهام الناس أن الوضع النقدي تحت السيطرة. المعادلة لم تتمكن من الصمود أمام موجة "ترامب" ضد إيران وإبتعاد دول الخليج عن لبنان نهائياً مع مجئ "ميشال عون"، مرشح حزب الله، إلى الرئاسة اللبنانية وابتعاد البلد عن أي إصلاح.
البلد يتنفس إقتصادياً ومالياً اليوم على وقع تعاميم سلامة التي يصلح أن تصبح مادة بحث ودراسة (Case Studies) نظراً لأن لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي إنهار مالياً ولم يقر قانونا للرقابة على الرساميل (Capital Control). حتى أن تعاميم مصرف لبنان أصبحت، في غياب أي سياسة مالية أخرى، خارطة الطريق التي تعتمدها الحكومة والمصارف والقطاع الخاص. ورغم العشوائية التي تعتري معظم هذه التعاميم إلا أن اللوم في التخبط الحاصل يقع على السلطة التنفيذية المستقيلة من دورها وليس على سلامة.
ولكن الحكم على رياض سلامة يجب أن يكون من خلال المعادلة التي اخترعها وأعاش عليها الليرة وكامل الإقتصاد في لبنان.هذه المعادلة هي مقامرة بأموال الناس، غير مسموحة بأي قانون أو عرف بل هي خطيئة سلامة الكبرى. أسقطت إنتفاضة ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) 2019 هذه المعادلة بالضربة القاضية. ومعها سقط رياض سلامة.
الكلام عن تجديد لحكم مصرف لبنان في حزيران (يونيو) المقبل وهم. الرجل قام على معادلة هرمية خادعة تخفي تشوهات الدولة وتشتري الوقت بثمن باهظ هو حقوق الناس وأموالهم.
رياض سلامة إنتهى مع سقوط معادلته.