تفاصيل الخبر

رسائل بالأحمر

23/02/2023
رسائل بالأحمر

 

بقلم خالد عوض

 

"في الحرب ثلاثة أرباع الأمور هي في القوة المعنوية، ميزان القوى الأخرى ليس إلا الربع" : نابليون بونابرت  ،"سان كلو" في ١٨٠٨. زيارة الرئيس الأميركي "جو بايدن" إلى العاصمة الأوكرانية "كييف" ومنها إلى "وارسو" عاصمة بولندا تأتي في هذا السياق. تاريخياً، لم يسبق أن زار رئيس أميركي بلدا في فترة حرب من دون أن يكون جنود اميركيون وبنية عسكرية أميركية متكاملة على أرض هذا البلد. "جو بايدن" فعل ذلك لأول مرة عندما زار أوكرانيا منذ أيام. للزيارة معان كثيرة ومنها وخلالها طارت الرسائل إلى كل العالم. فبعدها بيوم كان الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" يبعث برسائله هو أيضا من خلال خطاب الساعتين أمام شعبه والذي تبعه بعد ٤٨ ساعة بظهور مقتضب بالهواء الطلق على طريقة "بايدن" . صحيح أن الحروب لا تخاض بالتصاريح والخطابات ولا حتى الرسائل إلا أن جولة "بايدن" يومي ٢٠ و ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٢٣ ستدخل التاريخ لعدة أسباب. 

 

شباب الثمانين 

منذ أن إستلم رئاسة الولايات المتحدة عام ٢٠٢١ و"بايدن" متهم من قبل خصومه بالخرف وأن شيخوخته لا تؤهله لكي يكون رئيسا لدولة من المفروض أنها تقود العالم. الرجل تلعثم عدة مرات وخرج عن نص الكثير من الخطابات بشكل محرج وسمى الأشياء بغير اسمائها في عدة مناسبات، إلا أن كل من جلس مع "جو بايدن" من زعماء رؤساء فوجئ بقدرته على التركيز والتحليل وبإلمامه بكل التفاصيل على عكس الصورة التي كانت تكونت لديهم قبل أن يقابلوه. الرجل قضى أكثر من ٥٠ سنة في السياسة منذ أن إنتخب في مجلس الشيوخ عام ١٩٧٢ وخبرته الدولية لا تضاهيها خبرة أي زعيم حي آخر،  بالإضافة إلى ذلك أحاط نفسه بمجموعة من المساعدين المتميزين مثل وزير الخارجية "انطوني بلينكن" ومستشار الأمن القومي "جاك سوليفان" اللذين خدما معه عندما كان "بايدن" نائباً للرئيس السابق "باراك اوباما".  كل هذا في كفة وزيارة "بايدن" إلى "كييف" في كفة أخرى. الرجل إنتقل ليلاً من "واشنطن" بالسيارة إلى قاعدة "أندروز" في ولاية "مريلاند" حيث إستقل "بوينغ" من طراز ٧٥٧ حطت به بعد سبع ساعات في قاعدة "رامستاين" في ألمانيا للتزود بالوقود ثم طارت به إلى الحدود البولندية الأوكرانية. هناك إستقل "بايدن" موكباً سياراً إلى محطة القطارات ليمضي ١٠ ساعات في القطار قبل أن يصل إلى "كييف".  بعد هذه الرحلة المتناهية التعقيد أمنياً والتي دامت أكثر من ٢١ ساعة أمضى الرئيس الأميركي خمس ساعات حافلة في العاصمة الأوكرانية تحت وقع صفارات الإنذار. 

 

الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في خطابه أمام شعبه بعض سنة على بدء "العملية العسكرية" في أوكرانيا: ندافع عن قيمة العائلة 

 

أي حرب هذه؟

مستشار "بايدن" للأمن القومي "جاك سوليفان" لم يتردد في البوح أن البيت الأبيض أبلغ موسكو بالزيارة قبلها بساعات. كانت هذه أول رسالة من البيت الأبيض لروسيا. الثانية وجهها "بايدن" من القصر الرئاسي في "كييف" حيث أعلن عن مساعدات جديدة وعن تصميم الولايات المتحدة على دعم أوكرانيا. بعدها بيوم رد "بوتين" بخطاب حدد فيه العدو بوضوح: الغرب، بقيمه المنحلة وشذوذه المتعدد الأشكال يحاول هدم المجتمع الروسي والقضاء على روسيا. الحرب بالنسبة للرئيس الروسي هي للدفاع عن القيم الإجتماعية المحافظة ومفهوم العائلة التي تميز روسيا، حسب تعبيره، والتصدي لصلافة الغربيين. لم يتأخر الرئيس الأميركي في الرد من العاصمة البولندية في مؤتمر شبابي وفي الهواء الطلق ليعيد تحديد أطراف الحرب: هي حرب بين الحرية والقمع وبين القيم الديمقراطية وما تمثله الأنظمة التوتاليتارية من إخضاع للناس وأفكارهم، قال "جو بايدن". ليست حرباً بين الشرق والغرب بل حرب بين القيم، تعني الناس في باكستان وإيران وكوريا وأميركا اللاتينية تماماً كما تعنيهم في الغرب.  

لا "بوتين" قادر أن يدافع عن قيم إجتماعية في بلده حيث ينمو الإدمان على الكحول ولا يزال متوسط العمر بين الرجال أقل من سبعين عاماً والإنحلال الأخلاقي متماد، ولا "بايدن" قادر على بيع فكرة التحرر عندما تكون مدينة "سان فرانسيسكو" في ولاية كاليفورنيا وهي المدينة التي يديرها الديمقراطيون بشكل مطلق وتعتبر مهد أفكار التحرر، تشهد إرتفاعاً مخيفاً في نسبة الإدمان على المخدرات وفيها عدد لا يحصى من المتشردين والمتسولين.

 

رسائل الخطوط الحمر 

يمكن إستنتاج عدة رسائل من الزيارة الرئاسية إلى "كييف" شكلاً ومضموناً. بالشكل أعلم "الكرملين" بها حتى لا يتعرض الرئيس الأميركي لأي خطر. هذا يعني أن موسكو تعرف جيداً حدودها. في المضمون ورغم كل الدعم المعنوي الذي اعلنه "بايدن" فإن القرار، حتى الساعة، هو بحصر الحرب داخل الحدود الأوكرانية وعدم تعرض الأراضي الروسية لأي إعتداء. هذا يفسر عدم إعطاء الطائرات الحربية إلى الأوكرانيين رغم أن تدريب طياريهم جار على ق دم وساق في الولايات المتحدة. في المقابل سطر الرئيس الروسي خطه الأحمر هو أيضاً. فتعليق مشاركة روسيا في معاهدة "نيو ستارت" التي وقعتها مع الولايات المتحدة عام ٢٠١٠ للحد من الرؤوس النووية الإستراتيجية التي يمكن للبلدين نشرهما هو إشارة واضحة أن الخيار النووي لا زال موجوداً في حال تعرضت بلاده لأي إعتداء. خط أحمر آخر رسمه وزير الخارجية الأميركي "انطوني بلينكن" للصينيين في اليوم نفسه  عندما حذرهم من مد الروس بأي أسلحة.

الرئيس الأميركي "جو بايدن" في رحلة العشر ساعات داخل عربة القطار الذي اقله من الحدود البولندية إلى "كييف" مع مستشاره للأم القومي "جاك سوليفان": نفس طويل لحرب طويلة

 

الغائبان الحاضران

هناك لاعبان مهمان لم يشاركا في المشهد الأميركي الروسي منذ أيام. أوروبا التي اعتقدت منذ عقود أن الحرب لن تأتي إليها ووثقت بأن مصالح "بوتين" النفطية معها ستردعه عن الحروب. والصين التي ظنت أن "بوتين" قادر على حسم حرب أوكرانيا خلال اسابيع. أوروبا عادت إلى التسلح بكل ثقلها وإلى الإلتفاف الكامل بالحماية الأميركية. والصين ستحاول من خلال زيارة رئيسها "شي جين بينغ" إلى موسكو في الربيع المقبل أن تلعب دور "الوسيط" رغم انحيازها الإستراتيجي إلى روسيا. موقف الطرفين يؤكد من جديد أن الحرب في أوكرانيا طويلة وأن دماء كثيرة ستسيل قبل أن تصحو العقول.

     

مهما كانت تسمية هذه الحرب وبين أي معسكرين تدور، فإن زيارة "بايدن" حولتها إلى معركة كسر عظم. الرئيس الأميركي تعهد بأن لا تخسر "أوكرانيا" وهذا وعد كبير من زعيم الغرب وأعلى سلطة لأعظم قوة عسكرية في العالم . ربما يلخص تعليق أحد المواطنين الأوكرانيين على زيارة "بايدن" حجم الزخم الذي اعطته الزيارة ومغزاها: "لا يمكن لدولة يزور عاصمثها رئيس الولايات المتحدة في عز الحرب أن تخسر".