تفاصيل الخبر

منافسة بالجيوب على القلوب والعقول

17/12/2022
منافسة بالجيوب على القلوب والعقول

بقلم خالد عوض

بين زيارة الرئس الصيني "شي جين بينغ" إلى الرياض منذ أسبوع ومؤتمر القادة الأفريقيين الذي استضافته العاصمة الأميركية "واشنطن" منذ أيام عنوان واحد: المنافسة الأميركية الصينية للسيطرة على العالم وموارده. الصين تريد زعزعة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط من خلال إنفتاح استراتيجي على المنطقة عبر السعودية. والولايات المتحدة تسعى إلى مزاحمة الصين في افريقيا والدخول جديا في مسار تأسيس النمو الاقتصادي المستدام في القارة السمراء. من الواضح أن هذه المنافسة الاقتصادية ستستشرس أكثر وربما تأخذ أشكالا وأبعادا مختلفة لن تبقى بالضرورة دبلوماسية. ولكنها رغم خطورتها، تشكل فرصة للدول والمناطق التي تستهدفها لتحسين اقتصاداتها بل حتى لفرض شروطها على القطبين العالميين وإستثمار المنافسة بينهما لصالح شعوبها. 

المنافسة بالمال... الكثير

منذ ولاية الرئيس الأميركي السابق "بيل كلينتون" والولايات المتحدة تطرح استراتيجية تلو استراتيجية لأفريقيا. في ايار (مايو) من العام ٢٠٠٠ أي في آخر شهور ولاية "كلينتون"، أقر الكونغرس الأميركي أول قانون يفتح العلاقة التجارية بين الولايات المتحدة وأفريقيا تحت إسم "نمو وفرص أفريقيا" (Africa Growth and Opportunity Act) الذي يسمح لـ ٣٦ بلداً أفريقياً تصدير منتجات بلادهم إلى الولايات المتحدة من دون اخضاعها لأي رسوم. تابع خليفة "كلينتون" الرئيس السابق "جورج دبليو بوش" الإهتمام الأمريكي الصوري بأفريقيا عن طريق زيارة خصصها لدول تمثل "الصورة الديمقراطية" التي تنسجم مع مسار إدارته التي كانت مقتنعة أن "تصدير" الديموقراطية يعزز النفوذ الأميركي العالمي. تطورت السياسة الأميركية مع وصول "باراك اوباما" الغاني الأصل إلى الرئاسة فأطلق من تنزانيا عام ٢٠١٣ مبادرة خمسة سنوات تحت إسم "طاقة أفريقيا" (Power Africa) التي تركز على دعم مشاريع الطاقة النظيفة وتحسين المستوى الصحي في دول جنوب الصحراء الأفريقية. كما أسس "اوباما" مؤتمر قادة أفريقيا وعقد أول قمة له عام ٢٠١٤ في "واشنطن"، ولكن مع أول توجه للتقشف في الموازنة الأميركية تراجع "اوباما" عن معظم وعوده المالية لأفريقيا. ثم جاء "دونالد ترامب" الذي كان أول رئيس لم يزر أفريقيا منذ "رونالد ريغان" في الثمانينات، كما لم يتابع استضافة مؤتمر القادة الأفارقة، واكتفى عام ٢٠١٨ بإطلاق مبادرة "إزدهار أفريقيا" التي تعزز التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وأفريقيا والتي شملت ٤٩ دولة أفريقية، ولكنها ظلت محصورة ببضع مئات ملايين الدولارات. منذ أيام وعلى هامش مؤتمر القادة الأفارقة في "واشطن"، أعلن الرئيس الأميركي "جو بايدن" تخصيص ٥٥ مليار دولار لأفريقيا في السنوات الثلاثة المقبلة وهو أكثر من ضعف ما انفقته الصين حتى الآن في القارة السمراء خلال الثلاثين سنة الماضية.

الرئيس الأميركي "جو بايدن" في مؤتمر قادة أفريقيا في "واشنطن": صولد ضد الصين في أفريقيا ؟

 

واحد يستثمر في الأعضاء والثاني في الشرايين

 

رغم المبلغ الكبير الذي أعلن "بايدن" رصده إلا أن التمعن في البرامج المنوي اطلاقها يبين أن الكثير منها ليس جديدا ويعود إلى المبادرات السابقة التي اطلقها سلفاه "ترامب" و"اوباما". كما أن المبالغ المعلن عنها لا تشمل مشاريع بنية تحتية التي يبدو أن الولايات المتحدة سلمت أنها لن تتمكن من منافسة الصين بأسعارها المنخفضة في هذا المجال. برامج "بايدن" تستهدف خاصة قطاعات الصحة والطاقة النظيفة والتكنولوجيا وتحفيز دور المرأة وتعزيز التبادل التجاري ومحاربة الفقر. أما مشاريع المطارات والمرافئ والتعدين والجسور والطرقات فلم تتطرق إليها المليارات الأميركية. من جهة تحاول الولايات المتحدة كسب قلوب وعقول الأفارقة عن طريق دعم القطاعات الحيوية التي تؤثر في حياتهم كل يوم، ظنا منها أن الإستثمارات الصينية في الشرايين أي في البنية التحتية ستبقى ثانوية، خاصة أنها تخدم مصالح الصين بالدرجة الأولى لأنها تسعى إلى تعزيز نمو صادراتها إلى أفريقيا ولا تكترث بنفس الأهمية إلى الواقع المعيشي للإنسان الأفريقي. كما أنها تأتي بالعمال (معظمهم من المساجين) والمعدات ومواد البناء من الصين. ومن جهة ثانية تسعى إدارة "بايدن" أن تكون أكثر جدية من سابقتها لإعادة ثقة الدول الأفريقية أن الولايات المتحدة يمكنها أن تكون الشريك الأول لها.

الرئيس الصيني "شي جين بينغ": الصين لن تعامل أفريقيا كما عاملها الغرب على مدى عقود وقرون   

 

القطار غادر المحطة؟

رغم حجمها الكبير تأتي مبادرة "بايدن" متأخرة، ولن تحتمل أي تأخير في التنفيذ أو تراجع عن الوعود. منذ عام ٢٠٠٠ تعقد الصين كل ثلاث سنوات منتدى التعاون الصيني الأفريقي ولا تمضي سنة واحدة من دون أن يزور وزير الخارجية الصيني معظم الدول الأفريقية. هي أصبحت الشريك التجاري الأول لأفريقيا بحجم تبادل تجاري تجاوز ٢٥٤ مليار دولار عام ٢٠٢١ وهو أكثر من أربع أضعاف حجم التبادل التجاري الأميركي الأفريقي. أكثر من ٨٨٠٠ منتجاً أفريقياً يستفيد من إعفاء جمركي صيني مقابل أقل من ١٨٠٠ منتجا تستورده الولايات المتحدة من أفريقيا. الصين وأوروبا تتنافسان في الإستثمارات الأجنبية المباشرة في أفريقيا تليهما الهند ثم الولايات المتحدة في المركز الرابع. الصين وعدت بأن تناهز وارداتها من أفريقيا ٣٠٠ مليار دولار عام ٢٠٢٥ أي ثلاثة أضعاف مستواها الحالي. مقابل ذلك لا تزيد واردات الولايات المتحدة من أفريقيا عن ٣٨ مليار دولار سنويا.   

 

صحيح أن "بايدن" وعد بإدخال القارة الأفريقية إلى مجموعة الدول العشرين لإعطائها نافذة سياسية وإقتصادية أوسع على العالم، ولكن خبرة الأفارقة مع الإدارات الأميركية المتعاقبة تفرض عليها التشكيك بسياسة الولايات المتحدة في أفريقيا لأنها كانت تنطوي في الكثير من الأحيان على الإملاء وعلى التدخل في الشؤون الداخلية. في المقابل، لا تكترث الصين إلى مسائل حقوق الإنسان أو الفساد أو الديمقراطية في أي دولة تريد التعاون معها إقتصاديا ولا تحمل معها أي إرث استعماري أو عنصري. 

إذا كانت مليارات "بايدن" مشروطة بالإصلاحات السياسية والعناوين الإنسانية الأخرى فلن تجد الطريق إلى قلوب الأفارقة وعقولهم بل فقط إلى جيوبهم. كذلك في الشرق الأوسط ، على الولايات المتحدة أن "تطنش" عن الكثير إذا أرادت الحفاظ على موقعها المتقدم على منافستها الجديدة هناك. فالصين تحمل إلى أفريقيا والشرق الأوسط شعارا له صدى كبير عند الأفارقة وبعض العرب وسيكون من الصعب أن تغلبه المليارات الأميركية: "لن نعاملكم مثلما عاملكم الأوروبيون والأميركيون منذ عشرات بل مئات السنين".