بقلم خالد عوض
ليس هناك أنبل من قضية فلسطين. ما نشهده يومياً من المستوطنين الإسرائيليين وهم يستبيحون الأراضي والبيوت والمقدسات يثير في كل عربي من هذا الشرق ومن كل طالب عدالة في العالم أقصى الغضب، وليس فقط التعاطف مع شعب فلسطين الذي ليس هناك من شعب في العالم عانى ما عاناه منذ ٧٥ عاماً ولم يعد هناك شعب غيره يرزح تحت الاحتلال. لا بد أن يبقى تحرير كل فلسطين أو على الأقل ضمان حق الفلسطينيين في العيش الكريم في دولة مستقلة هم وحدهم أصحاب السيادة فيها هدفاً لكل إنسان عربي بل لكل إنسان يسعى لتحقيق انسانيته. أهم ما في قضية فلسطين المحقة أنها قضية تخص شعباً وأمة ومنطقة بكاملها. وأسوأ ما فيها أنها استخدمت كشماعة موبقات واداة لأنظمة عربية عديدة لتشريع ظلمها وقمع شعبها باسم "القضية"، وحرمان ناسها من حقهم، هم أيضاً، في عيش كريم. لعل لبنان أحد الأمثلة الصارخة على استغلال القضية الفلسطينية على المدى الخمسين عاماً الماضية.
لبنان في قلب القضية
منذ نكبة ١٩٤٨ وإعلان قيام دولة إسرائيل في ١٤ أيار (مايو) عام ١٩٤٨ تم تهجير مئات آلاف الفلسطينيين من أراضيهم إلى عدة دول عربية، دخل لبنان، الذي كان في سن الخامسة من استقلاله من الانتداب الفرنسي، في قلب القضية الفلسطينية. ورغم أن اتفاق الهدنة الذي تم التوصل إليه بين لبنان وإسرائيل برعاية الأمم المتحدة حفظ الحدود اللبنانية وأوقف الحرب على الحدود اللبنانية مع فلسطين يومها إلا أن مجيء أكثر من مئة ألف لاجئ فلسطيني إلى لبنان في سنة واحدة أي ما كان يشكل يومها أكثر من ١٠ بالمئة من عدد اللبنانيين أدخل لبنان في مواجهة مستمرة مع إسرائيل التي لا زالت ترفض حتى الاعتراف بوجود لاجئين فلسطينيين في لبنان وتتنكر تماماً لقرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤ الذي يضمن حق العودة للفلسطينيين. ثم جاءت حرب ١٩٦٧ لتفاقم الهجرة الفلسطينية. ومع توقيع اتفاق القاهرة سنة ١٩٦٩ لتنظيم الوجود الفلسطيني في لبنان تم الاعتراف بحق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة من الأراضي اللبنانية ثم تحول السلاح الفلسطيني إلى الداخل اللبناني مع حرب ١٩٧٥ ودوى شعار "طريق فلسطين يمر من جونيه" ليؤكد انحراف مسار المقاومة الفلسطينية وضياع البوصلة إلى القدس تماماً. في ١٩٨٢ دخلت إيران في مسار محاربة إسرائيل وأنشأت حزب الله في لبنان الذي تحول إلى قوة إقليمية تحارب في سوريا واليمن تحت شعار تحرير القدس، حتى لو تطلب ذلك القتال في حلب أو صنعاء.
استراتيجية دفاعية أو تحريرية؟
هناك إيمان قوي لدى حزب الله أن تحرير القدس ليس شعاراً وهمياً بل هو هدف قابل للتحقيق وأصبح مسألة وقت. وتزيد من هذه القناعة المشاكل السياسية المتواصلة التي تعاني منها دولة الكيان الصهيوني منذ خمس سنوات وتراجع القدرة العسكرية البرية للجيش الإسرائيلي بسبب جيل جديد من المجندين يرفض مبدأ الحرب وغير مستعد للتضحيات الكبيرة، مقابل مقاومين من حزب الله مدربين أحسن تدريب ومجهزين بأسلحة لم تكن متاحة لأي مقاومة سابقة ومستعدين للشهادة في أي لحظة. لذلك فإن أولوية حزب الله اليوم هي تكثيف الاستعدادات العسكرية واللوجستية للحرب المقبلة والاستمرار في نفس الايديولوجية التي نشأ بسببها وهي تحرير فلسطين. يجب أن يبدأ الرئيس المقبل للجمهورية اللبنانية في أي حوار مع حزب الله من قضية تحرير القدس ودور الأراضي اللبنانية في هذا المسار.
الرئيس ومفاعيل الشعار
أكد الوزير السابق سليمان فرنجية خلال ترشحه لرئاسة الجمهورية من الصرح البطريركي في بكركي أنه يستطيع الحصول من حزب الله ما لا يمكن لأي شخص آخر أن يأخذه. الرجل صادق في هذه القناعة رغم أنه لا يطلق وعوداً معينة ولا يحدد ما يمكن أن يأخذه. في المقابل يتمسك حزب الله بمرشحه لأنه لا يريد أن تتعرض المقاومة "للطعن" من أي رئيس مقبل. ويؤكد الحزب أن مقاربته مسألة تحرير القدس لا تعني التضحية بلبنان ويعطي مثالاً على ذلك موافقته على اتفاق الترسيم مع إسرائيل. فخلال المفاوضات لمس حزب الله أن معارضته للاتفاق كانت ستؤدي حتماً إلى وقف كل أنشطة التنقيب وإلى طي ملف الغاز في لبنان بشكل نهائي مع كل ما يعني ذلك من تبعات اقتصادية ومالية. يومها اختار حزب الله التنازل واضعاً مصلحة البلد وناسه في المقدمة. بالنسبة للحزب هذا لا يتناقض مع شعار تحرير القدس القائم على حرب طويلة ومتعددة المراحل وليس على معارك جانبية يمكن أن يخسر بعضها مثل الترسيم.
يبقى على سليمان فرنجية وحزب الله أن يشرحوا للبنانيين ما هو مستقبل شعار تحرير القدس من لبنان، خاصة أن حزب الله مؤمن أن هذا التحرير لن يتأخر أكثر من خمس سنوات من اليوم أي خلال فترة حكم رئيس الجمهورية اللبنانية المقبل. وعلى البرلمانيين اللبنانيين الذين بدأوا يستعدون جدياً لانتخاب سليمان فرنجية أن يسألوه عن موقفه من تحرير القدس انطلاقاً من لبنان، فهم عندما سيتوجهون إلى ساحة النجمة لانتخابه انما يصوتون لهذا المسار.