بقلم خالد عوض
المشهد من إسرائيل مختلف عن كل ما رأيناه في الماضي. من جهة هناك جيش إسرائيلي تدرب على حرب الشوارع وقام بتنفيذ عملية "محدودة" في "جنين" لمنع تعاظم قوة الفدائيين فيها، ومن جهة أخرى هناك مقاومة فلسطينية لا يزيد عددها عن ٣٠٠ مقاتل في مخيم لا تتعدى مساحته نصف كيلومتر مربع تعلمت كيف تتجنب الهزيمة ضد جيش يستخدم أحداث أنواع الأسلحة وأفتكها، ولكن المشكلة في إسرائيل لم تعد عسكرية ومرتبطة فقط بالاحتلال الظالم للأراضي الفلسطينية. لب المسألة هو مستقبل الفلسطينيين في ارضهم، بل مستقبل إسرائيل ككل.
المقاومة خطر موجع جداً لا أكثر
ليس صحيحاً أن إسرائيل تضعف بسبب المقاومة الشرسة التي تواجهها في غزة والضفة الغربية أو بسبب تنامي قوة حزب الله في لبنان أو بسبب صواريخ إيران ومسيراتها القادرة على التوجه جواً إلى إسرائيل في أي وقت وبالآلاف من لبنان وسوريا. كل هذه العوامل تهدد أمن إسرائيل جدياً، ولكنها لا تشكل بالنسبة لها خطراً وجودياً. مسألة غزة يمكن ضبطها عن طريق مصر وحتى تركيا وقطر. الضفة الغربية خطر عسكري متزايد، ولكن يمكن أيضاً منع تمدده بواسطة الدول الخليجية. الوضع مع حزب الله مختلف بسبب الجغرافيا وحرية الحركة، ولكن ما حصل في مسألة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل سابقة يمكن البناء عليها مستقبلاً، كما أن نضوج التسويات الدولية والإقليمية مع إيران يساهم كثيراً في الحد من خطر حزب الله دون أن يلغيه. كما أن تعثر روسيا في أوكرانيا وانكشاف محدودية قدراتها العسكرية والخوف من تململ شعبي داخلي يجعلها أكثر هوادة في أي مفاوضات إقليمية في الشرق الأوسط. إذاً رغم المقاومة المتصاعدة في الأراضي المحتلة ورغم الخطر الأمني والعسكري الذي تمثله على استقرار الدولة اليهودية إلا أن إسرائيل تعرف تماماً الطريق إلى المفاتيح الإقليمية والغطاء الدولي للجم هذه المقاومة، كما أنها لا زالت قادرة على صدها عسكرياً. مستقبل إسرائيل في خطر لأسباب مختلفة تماما.
سراب الديموقراطية
بعد بضع ساعات من إعلان الجيش الإسرائيلي عن انتهاء عملية "جنين" هب الإسرائيليون إلى الشوارع منتفضين اثر تنحي "آمي اشيد" قائد شرطة تل أبيب عن منصبه. "اشيد" عزى استقالته الى الضغط الكبير الذي تعرض له من أعضاء لم يسمهم في حكومة "نتينياهو" من أجل استخدام القوة لقمع الاحتجاجات. فمنذ شهور ومئات الاسرائيليين يتظاهرون أسبوعياً ضد محاولة حكومة "بنيامين نتنياهو" تحويل صلاحيات قضائية الى الكنيست من أجل تأمين حصانة مستدامة لرئيس الحكومة وبعض وزرائه المتهمين بقضايا فساد. وفي مقالة له في صحيفة "هآرتز" حذر رئيس الوزراء السابق "إيهود باراك" من أن إسرائيل على بعد أيام من التحول إلى دكتاتورية بسبب إرسال الحكومة الى الكنيست في الأيام القليلة الآتية تشريعات تقوض السلطة القضائية تماماً وتعطي السلطة التنفيذية التي عادة ما تكون صاحبة الأغلبية في الكنيست صلاحيات واسعة. إذا مرت هذه القوانين في الكنيست لن تكون إسرائيل بعد اليوم دولة يمكنها ادعاء الديموقراطية كما سوقت نفسها منذ ٧٥ عاماً وكسبت بسبب ذلك وبسبب كلامها أنها واحة في صحراء الدكتاتوريات العربية تعاطف ديموقراطيات العالم منذ نشأتها. الأهم في التحول العتيد داخل إسرائيل هو الانقسام العامودي الداخلي ورفض جزء كبير من الإسرائيليين خسارة الوجه الديموقراطي لدولتهم.
الكلام أن المقاومة الفلسطينية الشرسة للاحتلال توجع الإسرائيليين صحيح ودقيق. وما يقوم به عشرات المقاتلين أمام جيش يتمتع بكامل الدعم العسكري والمخابراتي واللوجستي والتكنولوجي إنجاز استثنائي بكل المقاييس. ولكن إسرائيل تستفيد من هذه المقاومة لنفخ الروح في الحس القومي عند شعبها، وبدل أن تضعفها المقاومة تستقوي إسرائيل بها للتمادي في التعديات من استيطان واستباحة متعددة الأوجه للأراضي الفلسطينية. إلا أن ما يهدد وجود إسرائيل بحق اليوم هو الجنوح بعيداً عن الديموقراطية التي كانت تتغنى بها متجهة إلى نظام سلطوي بوليسي يمكن أن يقضي تماماً على أسباب بقائها كدولة وعلى فكرة وجودها ككيان.