بقلم خالد عوض
قولوا عنه دكتاتوراً وسموه مجنون سلطة وانعتوه بما اردتم من الصفات، ولكن الرئيس التونسي قيس سعيد رمز وطني دخل التاريخ ليس فقط عندما قرر إعلان حرب بلا هوادة على الفساد في بلده من الجذور متحدياً معارضة تتمتع بقاعدة شعبية واسعة ومدعومة من حلقة مراكز قوى مالية ممسكة باقتصاد البلد، بل أيضاً منذ أيام عندما كان حازماً مع المديرة العامة لصندوق النقد الدولي "كريستالينا غورغييفا" ورفض كل مقترحات الصندوق وشروطه مقابل منح تونس قرضاً بقيمة ١٬٩ مليار دولار.
شر يمكن الاستغناء عنه؟
جواب الرئيس التونسي على شروط "غورغييفا" كان ببساطة: "الكلفة الاجتماعية والشعبية لما يطلبه الصندوق أكبر بكثير مما ستحصل عليه تونس". واستذكر الرئيس التونسي أحداث نهاية عام ١٩٨٣ عندما تظاهر آلاف التونسيين اعتراضاً على رفع أسعار الخبز في ما سمي يومها بـ"أحداث الخبز" ضد الرئيس الراحل "حبيب بورقيبة" والتي أدت إلى مقتل ١٠٠ متظاهر. وأكد سعيد أنه ليس مستعداً أن يرى قطرة دم واحدة في شوارع تونس من أجل عيون صندوق النقد. وعندما سئل عن بديل الصندوق أجاب الرئيس التونسي: "علينا الاعتماد على أنفسنا". أنهى الرئيس التونسي المحادثة مع "غورغييفا" بدعوتها لزيارة تونس ولم تتردد في الموافقة أمام رئيس لم ينحن أمام إغراءت الصندوق المالية لأنه لمس ما سيعني ذلك من معاناة لشعبه.
يغري ويغرق
ما قاله قيس سعيد يفكر فيه كل يوم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي يبحث عن قرض جديد من الصندوق هدفه الأول تسديد دفعات القرض الأول (وصل مجموع ديون مصر للصندوق ١٨ مليار دولار) والرئيس الأرجنتيني "ألبيرتو فرنانديز" الذي تدور بلاده في حلقة ديون لا تنتهي (تخطت ديون الأرجنتين للصندوق ٤٦ مليار دولار)، وقادة ورؤساء كثيرين تورطت دولهم مع صندوق النقد الدولي ولا زالوا يتجرعون وصفته المسممة. أصبح المسار "الإنقاذي" لصندوق النقد لأي دولة تعاني من أزمة مالية معروف: تحرير سعر صرف العملة المحلية، رفع الدعم عن الطاقة ومشتقاتها، رفع الدعم عن الأساسيات الغذائية مثل الخبز، رفع مستوى الضرائب وفرض ضرائب جديدة، خفض نفقات الدولة في القطاع العام وصولاً إلى خصخصة القطاعات الرئيسة للدولة. هم صندوق النقد أن يتأكد أن الدولة التي تستدين منه سترد له دينه وما يسميه إصلاحات هو ضمانات لتحصيل قرضه لا أكثر ولا أقل. لا يهم ما ستعانيه الناس ولا زيادة نسبة الفقر أو تراجع القيمة الشرائية. كما أن الصندوق لا يقترح مساراً اقتصادياً ملائماً للبلد المتعثر بل مجموعة اجراءات إصلاحية لخفض النفقات هي نفسها بغض النظر عن خصوصيات الدولة المستدينة.
الوصفة القاتلة
على سبيل المثال، لا يقارب الصندوق حل مشكلة العجز في ميزان المدفوعات أو الميزان التجاري بشكل استراتيجي بل يكتفي بسلة ضريبية تؤمن موارد إضافية للدولة. حتى لو كانت دول العالم الأول تعتبر التعامل مع الصندوق عنواناً مطمئناً للإصلاح إلا أن وصفة الصندوق التي هي نسخة مطابقة في الأرجنتين ومصر والمغرب والأكوادور وربما قريباً في لبنان لم تكن إلا بلاء على الدول التي اعتمدتها. أكبر دليل على ذلك ما تقوم به دول العالم الأول اليوم، وهي اجراءات مناقضة تماماً لم ينصح به الصندوق دول العالم الثالث: دعم للطاقة وسلات غذائية مدعومة في أوروبا، وتدخل البنك المركزي لإنقاذ العديد من البنوك في الولايات المتحدة ،بينما ينصح الصندوق أن لا تتدخل الدولة لإنقاذ المودعين، وتجاوز نسبة الدين العام من الناتج المحلي ١٢٠ بالمئة في معظم الدول المتطورة مع أن الصندوق ينصح بأن لا تزيد النسبة عن ١٠٠ بالمئة وتنامي عجز موازنات هذه الدول رغم إصرار الصندوق على عجز يقارب الصفر للدول التي تريد الاقتراض منه. أصبح من الواضح جداً أن وصفة صندوق النقد التقليدية هي قنبلة اجتماعية يزرعها في دول العالم الثالث وليست أبداً طريقاً مضموناً للخلاص المالي.
داء الديون
هناك ٩٣ دولة تستدين من الصندوق ما يناهز ١٥٥ مليار دولار ولكن حصة الأسد من هذه الديون تعود لعشر دول تستدين حوالي ١١٠ مليار دولار أي ٧١ بالمئة من مجموع قروض الصندوق. والدول العشرة هذه أصبحت مدمنة على قروض صندوق النقد الذي يبقى جل تركيزه فرض وصفاته الضريبية والترشيدية من دون المساهمة في وضع رؤية اقتصادية مستدامة للدولة المتعثرة. وبعيداً عن الكلام حول التوظيف السياسي لقروض الصندوق يظهر جلياً من متابعة تاريخ قروض الصندوق لدول مثل الأرجنتين أن القرض يجر القرض ويصبح وسيلة لتسديد الدين بدل أن يكون حافزاً للتنمية، بالإضافة إلى كل ذلك كل قرض يمنحه الصندوق لدولة تعاني من أزمة مالية يجلب معه المشاكل الاجتماعية وزيادة في نسبة الفقر.
لا شك أن هناك حالات معينة كان الاقتراض من الصندوق فيها مفيداً ليعض الدول خاصة عندما لم يكن الصندوق المقرض الأول أو الوحيد، ولكن النظر اليوم إلى وضع مصر أو الأرجنتين يؤكد أن وصفة الصندوق ومعادلاته المالية ليست وسيلة تطور اقتصادي، بل وصفة أزمات اجتماعية لا تنتهي. الأرجنتين لجأت إلى الصين وزادت نسبة تعاملاتها باليوان الصيني إلى ٢٨ بالمئة من مجموع تعاملاتها التجارية بسبب شح الدولار. مصر تبحث عن حبل خلاص خليجي يبعد عنها مشنقة الصندوق.
قد يكون موقف قيس سعيد الرافض لشروط الصندوق بداية النهاية لدور صندوق النقد الدولي في "إنقاذ" الدول المتعثرة مالياً وبرعماً للبحث عن إطار مالي دولي جديد مهمته الإنقاذ الحقيقي وليس الإغراق.