بقلم خالد عوض
من دون حافز إقتصادي ومالي إستثنائي لن يتدخل العالم، بغربه وشرقه، لمساعدة لبنان. البلد غريق في فوضى محمومة فيها كل أنواع المشاكل والأزمات، من عجز سياسي إلى تدهور في قيمة العملة الوطنية وصولاً مؤخراً إلى القضاء. هل هناك مصالح إقتصادية لبنانية تشجع الدول الكبرى على التدخل؟ من الواضح أن لبنان أصبح في مرحلة لا يمكنه تخطيها من دون مساعدة دولية حتى لو أدى ذلك إلى تنازلات في السيادة الإقتصادية للبلد.
صندوق النقد وروشتة الموت
كل الرسائل الدولية الآتية إلى السلطة السياسية في لبنان تبدأ بنفس التوصية: عليكم الإتفاق مع صندوق النقد الدولي. من دون إتفاق مع الصندوق لن يساعدكم أحد ولن تثق بكم أقرب الدول المانحة اليكم. كل طلبات صندوق النقد مقدور عليها، بل تأمن معظمها، من رفع للدعم وزيادة تعرفة الكهرباء وترشيد حجم القطاع العام وحتى تحرير سعر صرف الدولار مقابل الليرة، كلها أمور تحققت. فمصرف لبنان رفع الدعم عن كل مشتقات الطاقة وعن الدواء والمستلزمات الطبية وحتى عن الطحين. وزارة الطاقة رفعت سعر الكهرباء رغم عدم توفر التغذية إلا نادراً. موظفو الدولة يستقيلون بالجملة ويتقلص عددهم في القطاع العام. سعر الصرف يحلق ولا سقف له بل أصبح في يد المضاربين. يعني أن الدولة طبقت معظم شروط صندوق النقد حتى لو لم تقصد ذلك. ولكن هناك طلباً لا يمكن قبوله وهنا مكمن الأزمة مع الصندوق. لكي يقبل الصندوق بإقراض لبنان ٤ مليار دولار على فترة ٣ سنوات يريد التأكد أن الدولة قادرة عل الوفاء بإلتزاماتها ولذلك يريد شطب كل الديون التي راكمتها الحكومة اللبنانية وتحميل مصرف لبنان وخلفه المصارف والمودعين كل أوزار عجز الموازنات والفساد على مدى ثلاثة عقود. وحده ذلك يضمن للصندوق أن يصبح أول مستفيد من أي فائض في الموازنة. هذا الشرط مستحيل أن يقبل به اللبنانيون،وحتى الطبقة السياسية التي تبدي كل الإستعداد للتعاون مع صندوق النقد عاجزة عن تمرير هكذا شرط لأنه يطيح بها ويفقدها أي شرعية شعبية لا تزال تتمتع بها كما اثببت الإنتخابات النيابية الأخيرة. وهذا ما يفسر تعثر كل القوانين المالية في مجلس النواب من الكابيتال كونترول إلى خطة التعافي المالية.
"توتال" وقطر والغاز
لا زالت النتائج الحقيقية لعملية التنقيب التي قامت بها شركة "توتال" الفرنسية في البلوك ٤ في ربيع عام ٢٠٢٠ غير واضحة. فبعد إنتهاء عملية التنقيب أعلنت "توتال" أنها لم تجد المخزون التجاري الكافي من الغاز وأنها ستصدر التقرير النهائي لها في حزيران (يونيو) ٢٠٢٠ أي بعد أن تكون استكملت كل التحاليل للعينات التي استخرجتها. هذا التقرير لم يصل إلى السلطات اللبنانية حتى اليوم، وكل ما افادت به "توتال" بشكل غير رسمي هو أن إستخراج الغاز في لبنان بحاجة إلى إتفاق جيوسياسي وليس فقط إلى كميات تجارية من الغاز. بعد إتفاق الترسيم الأخير بين لبنان وإسرائيل أصبحت "توتال" في موقع يسمح لها باستكمال اعمالها في لبنان بـ"حرية". في هذا الوقت اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية وخرجت الشركة الروسية "نوفاتك" من التحالف مع "توتال" الفرنسية و"ايني" الإيطالية، الذي فاز بعقد التنقيب في البلوكين ٤ و٩ ، بسبب العقوبات على روسيا، فاسترجعت الدولة اللبنانية حصة "نوفاتك" البالغة ٢٠ بالمئة على أن تبيعها إلى مجموعة جديدة تنضم إلى التحالف. والأرجح أن يكون الطرف الثالث في التحالف شركة قطر للطاقة التي تربطها بـ"توتال" شراكة إستراتيجية في بحر الشمال القطري. سعر الغاز الطبيعي اليوم هو أكثر من ضعفي ما كان عليه عندما قامت "توتال" بالتنقيب عام ٢٠٢٠ ولذلك عاد البلوك ٤ إلى دائرة الاهتمام، رغم أن كل التركيز سيكون على البلوك ٩ الذي تقدر كمية الغاز فيه بأكثر من مليار متر مكعب أو ما يوازي ٤٠ مليار دولار على الأقل.
الصندوق السيادي بيد الخارج
الوضع المهترئ في لبنان لم يعد بالإمكان إصلاحه من الداخل أو بالوسائل المحلية. استعصى الوضع الإقتصادي والمالي حتى على أصحاب "الأرانب"، الذين ظلوا يخرجون البدعة تلو الأخرى على مدى ثلاثة عقود لشراء الوقت. لا حل إلا بالغاز وبصندوق سيادي محايد تحت إدارة مالية أجنبية لا علاقة لها بالسلطات اللبنانية. أما صندوق النقد فيمكن الإتفاق معه على التالي: شطب ديون الدولة كما يريد مقابل حصول المودعين، فقط الذين لا علاقة لهم بالسياسة أو بالإدارة اللبنانية، على حد أقصى سنوي هو عشرين بالمئة من عوائد النفط إلى أن تستعاد كل ودائعهم.
المودعون سيقبلون حتى لو كان السمك لا زال في البحر ، ولكن قيمته شبه مؤكدة، خاصة إذا كانت إدارته مستقلة عن السلطة اللبنانية، وهم باستطاعتهم بيع حصصهم أو رهنها في الأسواق لو أرادوا الحصول على المال بسرعة من دون إنتظار سنوات. المصارف القادرة على الصمود ستكون عززت رساميلها بعائدات مستقبلية. الدولة ستكون من دون ديون أي تبدأ بصفحة بيضاء. وصندوق النقد لا يمكن أن يعترض بل سيكون من واجباته مواكبة الإصلاحات في الدولة.
أولوية "الغاز للمودعين غير المرتبطين بالدولة اللبنانية" منطقية في ظل التدهور الحاصل وتنفيذ كامل شروط صندوق النقد لن يكتمل إلا بهكذا معادلة.
ما حصل مؤخراً يؤكد أن الحل في لبنان لن يكون سيادياً، على الأقل إقتصادياً.