بقلم خالد عوض
لم يخطر على بال الرئس الأميركي "جو بايدن" عندما اجتمع بنظيره الصيني "شي جين بينغ" في مدينة "بالي" الإندونيسية على هامش قمة العشرين الأخيرة في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أن المنافسة مع الصين ستكون أيضاً في المجال الدبلوماسي. ما تمخض عن الاجتماع كان تفاهم القطبين الجديدين على ثلاثة أطر للعلاقة بينهما: المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية الشرسة والتعاون في مجالات معينة، مثل التغير المناخي وأزمة الغذاء والاستقرار المالي العالمي، والأمر الثالث هو عدم الإنجرار إلى المواجهة العسكرية. ولكن الإتفاق السعودي الإيراني الذي رعته "بيجينغ" منذ أيام حمل شكلاً جديداً من المنافسة في العلاقات الدولية لا تستحبها بالضرورة الولايات المتحدة.
براغماتية صبورة
منذ أن أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن "رؤية ٢٠٣٠" في نيسان (ابريل) من عام ٢٠١٦ والصواريخ والمسيرات الحوثية ما فتئت تستهدف الأراضي السعودية. صحيح أن المملكة استوعبت معظم هذه الهجمات وتمكنت من تخفيف اثرها الاقتصادي إلا أن مضايقات الحوثيين كانت تحاول التعكير باستمرار على الرؤية السعودية الجديدة والتذكير بأن حرب اليمن حجر عثرة كبير للمشاريع العملاقة التي اطلقتها المملكة. وعندما بدأت المحادثات الإيرانية السعودية في العاصمة العراقية بغداد مع بداية سنة ٢٠٢١ وضع المفاوضون السعوديون ملف اليمن في أول لائحة نقاط البحث، ولكن الجواب الإيراني كان نفسه في كل جولة محادثات: لا علاقة لنا باليمن وعليكم التفاوض مع الحوثيين. لم يستسغ السعوديون الجواب الإيراني خاصة وأن سفن الصواريخ الإيرانية لم تنفك عن الإبحار من إيران إلى اليمن،ولكن البراغماتية بقيت تحكم الموقف السعودي الذي ظل يذكر الإيرانيين بضرورة التدخل في المسألة اليمنية بالرغم من تنصلهم المستفز من كل ما يقوم به الحوثيون.
الدبلوماسية الناعمة
لدى زيارة الرئيس الصيني الأخيرة إلى الرياض عرض "شي" على ولي العهد السعودي أن تكون الصين جسراً بين السعودية وإيران فرحب الأمير محمد بالعرض الصيني الذي تبلور خلال بضعة اسابيع إلى إتفاق مبدئي في العاصمة الصينية.
أهم ما في الإتفاق هو أنه بضمانات صينية وقد تم الاعلان عنه من "بيجينغ". الصدقية الصينية تخوض أول أمتحان دبلوماسي دولي حقيقي لها ومن بوابة الشرق الأوسط، ولذلك قد يتعرض الإتفاق إلى خضات وهزات وسيكون على الصين إستخدام كل نفوذها لحمايته. الصين لم تهدد أي من الطرفين بالعقوبات أو بالحرب ولم تشترط صفقات معينة أو قواعد عسكرية أو إلى ما هناك من أثمان يحاول كسبها عادة الوسطاء الدوليون الكبار. هي تعرف أن طريق وحزام الحرير لا يمكنه العبور في النار ولذلك لا بد من إطفاء كل النيران أمامه.
الأمن مقابل الاستثمار؟
لا شك أن أعداء الإتفاق لن يقفوا أمامه متفرجين. فاتفاق كهذا يفك عزلة إيران بشكل غير مسبوق ويمنح الصين ورقة نفوذ كبيرة في الشرق الأوسط، ولكن رغم كل المخاطر الممكنة بدأت التباشير بإمكانية استدامته تهل. فقد أعلنت إيران عن وقف ارسالها أي أسلحة إلى الحوثيين في أول اعتراف صريح منها أنها كانت ترسل أسلحة إلى اليمن وفي تراجع مثير عن كل مواقفها السابقة التي كانت تتنصل من أي دور لها في اليمن. في المقابل أعلن وزير المال السعودي محمد الجدعان أن المملكة يمكن أن تبدأ سريعاً الاستثمار في إيران بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين. هذا يعني أن السعودية يمكن أن تتجاوز العقوبات المفروضة على إيران ،وهذا موقف غير مسبوق. حتى الآن ترفض السعودية بيع أي كمية من النفط بغير الدولار ولكن كلامها عن الاستثمار في إيران يعني إمكانية الاستدارة على العقوبات بعدم إستخدام الدولار وهذا يعرض البترودولار للاختراق من قبل عملات أخرى، بل يعرض العملة الأميركية برمتها للخطر.
آخر من يعلم؟
هل كان الأميركيون على علم بالإتفاق الإيراني السعودي وبالوساطة الصينية؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال لأنه من الصعب إخفاء أي شيء عن الولايات المتحدة واستخباراتها، ولكن من يعرف طريقة عمل الرئيس الصيني "شي جين بينغ" الذي يفضل الكتمان المطلق في أمور كهذه يمكن الاستنتاج أن الطرفين التزما بالسرية المطلقة. فلا يمكن نسيان موقف الرئيس الصيني في مقابلة "على الواقف" مع رئيس الوزراء الكندي "جوستين ترودو" على هامش قمة "بالي"، عندما وبخه "شي" بسبب تسريبه لكل الحديث الذي دار بينهما إلى الصحافة. وعندما أبدى "ترودو" استعداده لمناقشة كل المواضيع حتى التي هناك اختلاف عليها أجابه الرئيس الصيني بعجرفة: "يجب وضع الشروط أولاً!" الأميركيون كانوا على علم بتفاصيل المفاوضات السعودية الإيرانية، ولكنهم لم يعرفوا على الأرجح بالوساطة الصينية، على الأقل عبر الطرق الرسمية.
يجب قراءة الإتفاق السعودي الإيراني من خلال رؤية ٢٠٣٠. هذه الرؤية أصبحت تخص الشرق الأوسط كله وليس فقط المملكة العربية السعودية. ما حصل في "بيجينغ" هو خطوة سديدة لتحصين هذه الرؤية، ولا شك أن خطوات كثيرة ستتبعها، فالرؤية هي ثورة اقتصادية بتريليونات الدولارات ولا بد من تأمين الحماية السياسية والدولية الكاملة لها.