بقلم خالد عوض
منذ مجيء الرئيس الأميركي "جو بايدن" إلى البيت الأبيض عام ٢٠٢١ والحديث عن انسحاب أميركي من مناطق كثيرة في العالم لا يتوقف، ترافقه تحليلات وتوقعات عمن سيملأ الفراغ الأميركي وكيف. حتى عندما اندلعت الحرب في أوكرانيا وأعادت الولايات المتحدة اهتمامها الكبير بأوروبا عسكرياً واقتصادياً بقي الكلام عن عدم رغبة بل عدم قدرة الولايات المتحدة على الاهتمام بمناطق عديدة من العالم كما ظلت تفعل منذ عقود، خاصة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام ١٩٩١. اليوم أصبح الفراغ الأميركي واقعاً بدأت تلمسه دول عديدة من الهند إلى دول أميركا اللاتينية مروراً بالشرق الأوسط وأفريقيا.
السودان مرآة الفراغ
قد يكون السودان المثل الصارخ اليوم للغياب الأميركي من الشرق الأوسط. منافسة بين جنرالين أدت إلى انفجار البلد. جيش شرعي بقيادة عبد الفتاح البرهان في مواجهة قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي". الفراغ الأميركي ليس فقط في أن الرجلين بدآ صراعاً مفتوحاً على السلطة غير آبهين بنداء وزير الخارجية الأميركي"اننتوني بلينكن" ، بل لم يكترثا حتى لطلب الإدارة الأميركية منهما تأمين جلاء طاقم السفارة الأميركية في السودان. ولولا وساطة السعوديين والإماراتيين الذين تربطهما علاقة متينة بطرفي النزاع لكان النجاح مستحيلاً للعملية التي قامت بها قوات خاصة من "المارينز" لإخراج الرسميين الأميركيين من العاصمة السودانية الخرطوم المشتعلة في مشهد كاد أن يذكر، إذا لم يكن حجماً على الأقل شكلاً، بالانسحاب الأميركي من أفغانستان عام ٢٠٢١ أو بالهجوم الذي تعرضت له القنصلية الأميركية في بنغازي الليبية عام ٢٠١٢. في غياب النفوذ الدولي تحولت إثيوبيا إلى احد أهم الوسطاء في الحرب الداخلية السودانية، كما دخلت مجموعة "فاغنر" القريبة من النظام الروسي والتي تدعم قوات "حميدتي" إلى المعادلة العسكرية فأصبحت روسيا فجأة مفتاحاً لأي تسوية في السودان أو عقبة أمامها. ماذا كانت تفعل الولايات المتحدة كل هذه الفترة في السودان وكيف تركت الأمور تصل إلى هذا الحد بل كيف يمكن أن تصبح آخر من يعلم في مسار فتنة لم تكن وليدة يومها؟ ما يحصل في السودان يؤكد أن الولايات المتحدة منشغلة عن تفاصيل كثيرة في العالم ولا طاقة لديها اليوم للاهتمام ولا حتى الاستثمار في أزمات من نوع ما يحصل في السودان، بعدما كانت أزمات مشابهة فرصة لها لترسيخ النفوذ الأميركي في بقاع العالم.
لا أثر للعم "سام " في الحوار السعودي الإيراني
الخطوات المتسارعة في الاتفاق السعودي الإيراني تدل هي أيضاً أن الولايات المتحدة فقدت هيبتها السياسية والدبلوماسية في المنطقة. في اليمن بدأت الحلول تهل وتحول اهتمام القوى الإقليمية إلى التنمية والتطور وحسمت خيارها بالابتعاد عن مسار الحروب. الحوار السعودي الإيراني بالرعاية الصينية اللصيقة يشمل أستثمارات مشتركة في إيران وعدة مناطق أخرى ولن تغيب عنه مستقبلاً المسائل النفطية والغازية إما من خلال "اوبيك" أو حتى من خلال التنسيق المباشر. صحيح أن السعودية لا زالت مصرة على عدم بيع النفط إلا بالعملة الأميركية ولكنها لم تعد تستبعد استخدام الذهب للتبادلات التجارية الأخرى. هذا يحميها أولاً من خطر هبوط سعر الدولار الذي تربط عملتها به كما يبعد عنها شبح أي عقوبات مالية إن هي أرادت الأستثمار في مشاريع إستراتيجية داخل إيران. من يبحث في ما يتسرب عن المفاوضات السعودية الإيرانية الجارية على قدم وساق لا يجد أثراً للمصالح الأميركية.
الطريق والحزام الأمن
الجنوح نفسه في الابتعاد عن النفوذ الأميركي يظهر جلياً في أميركا اللاتينية. البرازيل تحاول الأستغناء تماماً عن الدولار واستبداله باليوان الصيني في كل تعاملاتها التجارية مع الصين. البيرو دخلت في أزمة حكم من دون أفق. الأرجنتين تجد نفسها مجدداً في أزمة مالية لم تعد تنفع معها معالجات صندوق النقد الدولي المستمرة منذ أكثر من ثلاثة عقود من دون طائل. هناك شعور متزايد لدى دول كثيرة من أميركا الجنوبية أن أحد أسباب مشاكلها الأقتصادية يعود إلى طمع الشركات الأميركية الكبيرة في مواردها. الإحساس نفسه يخالج الأفريقيين الذين ينظرون إلى الغرب كله ككتلة أستعمارية جشعة لم تهتم لعيش الافريقيين الكريم إلا بالكلام. يعزز كل هذه المشاعر مجيء الصين بسياسة مختلفة تماماً قوامها الاستثمار وتطوير البنية التحتية من دون فرض أي أجندة سياسية أو صفقات عسكرية. كل ما تريده الصين هو وصول بضائعها إلى الأفريقيين بشكل تنافسي والاستفادة من الموارد الطبيعية الأفريقية لتطوير صناعاتها، من دون أن تكترث لمعايير الديموقراطية أو حقوق الإنسان التي يتغنى بها الغرب ويحاول تصدير نسخته منها إلى كل العالم بل يستخدمها كسلاح له لتأمين مصالحه.
الصين في لبنان ؟
زيارة المبعوث الصيني الخاص إلى الشرق الأوسط "زهاي يون" إلى بيروت لاستطلاع مواقف الأطراف اللبنانية تندرج هي أيضا في مسار ملء الفراغ الأميركي. البلد في أزمة منذ ٤ سنوات ولا زال عاجزاً عن أنتخاب رئيس للجمهورية منذ ٦ شهور من دون أن أفق للحل. صحيح أن هوى لبنان لا زال غربياً وأميركياً إلا أن الفراغ السياسي الحالي هو فرصة للصين لتوسعة نفوذها في المنطقة خاصة أنها الراعية لإتفاق إقليمي استراتيجي بين السعودية وإيران وأن لها مصلحة في توفير قاعدة أستثمارية لها في لبنان تخدم مصالحها المستقبلية في سوريا والعراق. رغم كونها استطلاعية فإن زيارة "يون" مقدمة إما لاهتمام صيني جدي بالوضع اللبناني أو لبداية حل سياسي لبناني "يصنع من بكين وحلفائها الإقليميين".
الأزمات المتتالية في الولايات المتحدة تنبئ بمزيد من التراجع الأميركي في الاهتمام بمشاكل العالم التي لا تعود إليها إلا بمزيد من المشاكل والكلفة. كما أن منع الصين من التفوق عليها إقتصادياً لا يعني بالضرورة التصدي لنفوذها العالمي. بالعكس هناك وجهت نظر تقول أن غرق الصين في مستنقعات العالم السياسية يمكن أن يؤخر مسارها الإقتصادي ويستنزف ماليتها القوية. بغض النظر إذا كان الفراغ الأميركي مقصوداً أو مفروضاً على الولايات المتحدة بسبب مشاكلها الداخلية يبدو أن العالم دخل مرحلة سياسية جديدة تماماً لن يكون العم "سام "اللاعب الوحيد فيها، هذا إذا تواجد.