بقلم خالد عوض
بشر الرئيس الأميركي "جو بايدن" مواطنيه في الولايات المتحدة منذ أيام وقبيل توجهه لحضور قمة السبع في مدينة "هيروشيما" اليابانية أنه على وشك الاتفاق مع رئيس مجلس النواب الجمهوري "كيفن مكارثي" على رفع سقف الدين العام لأن عدم رفع سقف الدين سيكون كارثة على الولايات المتحدة والعالم. عندما يكون الخبر المفرح للناس وللأسواق المالية هو الاتفاق على مزيد من الديون وتخطي مستويات قياسية في الدين العام كما هو الحال في عدة دول في العالم من بينها الولايات المتحدة فهذا يعني أن هم الحكومات وهدفها الأول أصبح شراء الوقت مهما كان ثمن ذلك.
مزيد من الدين يوحي بالثقة ؟
هناك موقع الكتروني يرصد المالية الأميركية والدين العام عنوانه "ساعة الدين العام الأميركي" (US Debt Clock). لو كانت الأرقام في هذا الموقع مرتبطة بأي دولة في العالم غير الولايات المتحدة لكانت مؤسسات التصنيف العالمية وصندوق النقد والبنك الدولي تنافست لإعلان انهيار هذه الدولة وهبطت قيمة عملتها إلى الحضيض. حصل العكس مع الولايات المتحدة مع إعلان "بايدن" عن قرب الاتفاق حول سقف الدين. فقد ارتفع سعر الدولار أكثر من ٣ بالمئة مقابل معظم عملات العالم وتراجع سعر الذهب المعروف بالملاذ الآمن أمام الدولار عندما تبين أن الدين العام الأميركي في طريقه إلى الارتفاع حوالي ٣ تريليون دولار إضافية من دون قيود! ماذا تقول الأرقام قبل زيادة سقف الدين الأميركي؟ مستوى الدين العام من الناتج المحلي الأميركي يتجاوز حالياً ١٢٠ بالمئة ومستوى العجز في الموازنة يتخطى ٦ بالمئة من الناتج المحلي وأكثر من ٣٠ بالمئة من مجموع عائدات الخزينة. ثلث العجز ناتج عن خدمة الدين أي الفوائد وهو يساوي أكثر من ٥٥٠ مليار دولار. من باب المقارنة الرقمية فقط والتي ربما لا تجوز علمياً فإن لبنان المنهار اقتصادياً ومالياً لم يعد يعاني من أي عجز في الموازنة ودينه العام تراجع من ١٨٠ بالمئة إلى ١٤٠ بالمئة من الناتج المحلي خلال عامين ويمكن أن يصبح أقل من ١٠٠ بالمئة خلال ٣ اعوام في حال تحقق بعض النمو! للتذكير فقط، لبنان فقد ثقة عالم المال به بعدما ظل يرفع سقف الدين على مدار ٣٠ سنة وها هو اليوم وإن اقترب قليلاً من مسار التعافي المالي، لا يزال بعيداً جداً عن استعادة الثقة.
ركل التنكة إلى الأمام
إذا تم الإتفاق على رفع سقف الدين العام الأميركي كما أصبح متوقعاً، ستكون تلك المرة التاسعة والسبعين التي يتم فيها ذلك في تاريخ الولايات المتحدة. نظام إقتصادي متكامل قائم على الديون ودولة عظمى تسوق عملتها في العالم لتغطية جزء غير قليل من انفاقها الداخلي. استدانة الحكومات ليست خطأ بل هي سبيل فعال للتنمية. ولكن إذا لم يكن لديها أفق تتوضح من خلاله حدودها تتحول إلى خطيئة بحق البلاد وعبادها ومستقبل اجيالها. لذلك تم وضع المعايير الخاصة للحكومات المستدينة والتي تقضي بعدم تجاوز الدين مستوى ١٠٠ بالمئة من الناتج المحلي ولعدم تجاوز عجز الموازنة ٣ بالمئة من الناتج. خلال فترة الجائحة طارت هذه المعايير وراحت الحكومات تستدين بلا حساب لإقناع الناس بالمكوث في بيوتهم وفرض الإغلاق الشامل. وبدل أن تبدأ هذه الحكومات بلجم مستوى انفاقها بعد إنتهاء فترة الوباء زادت مصاريفها في كل القطاعات وخاصة العسكرية اثر إندلاع الحرب في أوكرانيا. كل هذه النفقات تكفلت بها ولا تزال البنوك المركزية عن طريق خلق أو طبع العملة وشراء السندات الحكومية، فوصلنا إلى مستوى تضخم لم يشهد العالم مثله منذ حوالي نصف قرن. وللجم التضخم قامت معظم البنوك المركزية برفع الفائدة على الودائع بعملتها وهذا أدى إلى تسارع في نمو ديون الدول وفي تفاقم عجز الموازنات وفي شح السيولة من البنوك فشهدنا تهاوي عدة مصارف، ثلاثة في الولايات المتحدة وبنك "كريدي سويس" الذي اشتراه بنك "يو. بي. أس". صحيح أن رفع سقف الدين في الولايات المتحدة ليس حدثاً جديداً ولكن حجم الرفع هذه المرة والذي سيناهز ٣ آلاف مليار دولار يعكس مشكلة بنيوية في المالية الأميركية من الصعب أن يتحملها الأقتصاد الأميركي من دون خضة كبيرة في الأسواق المالية وتراجع حاد في النمو.
التجربة الدانماركية
قصة الخلاف على رفع سقف الدين في الولايات المتحدة تعود ككل مرة إلى الصراع السياسي في السلطة. الجمهوريون يشترطون أن يواكب رفع السقف بخفض في الإنفاق في المجال الصحي وإعطاء مزيد من رخص توليد الطاقة التقليدية مثل الفحم الحجري والنفط والغاز لزيادة مداخيل الحكومة. إدارة "بايدن" والديموقراطيون يحاولون تمرير رفع السقف من دون شروط متذرعين بأن معظم النفقات التي يعارضها الجمهوريون اليوم هي جزء من الموازنة التي اعتمدها الكونغرس وسبق للجمهوريين أن وافقوا عليها. هناك بلد آخر وضع سقفاً لدينه العام هدفه لجم الحكومة في الإمعان في الاستدانة هو الدانمارك. الملفت أن مسألة رفع سقف الدين في الدانمارك لم تكن يوماً جزءاً من أي صراع سياسي بل كانت مسألة مالية وفنية بعيدة عن أي صراع على السلطة. هذا عكس ما نشاهده اليوم في الولايات المتحدة.
لعبة شد الحبال لا تزال في أوجها بين البيت الأبيض والمعسكر الجمهوري رغم تطمينات الرئيس الأميركي الذي اختصر جولته الأسيوية للعودة والعمل على حل مسألة سقف الدين.
مهما كانت نتيجة المفاوضات الدائرة حول رفع سقف الدين الأميركي، فإن الولايات المتحدة ستخرج حتماً خاسرة في مجال الثقة المالية.