بقلم خالد عوض
الرجل لا يؤمن إلا بالقوة وكل همه كان تظهير صورة قوته إلى شعبه والعالم، إلا أن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" تناسى أن من معه والقريبين منه لمسوا هشاشة المؤسسات التي صنعها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والتي تجلت بعد شنه الحرب على أوكرانيا. عندما يكتشف أعوان الرئيس أن قوته وهم من صنعه وأن برجه مبني على قش تصبح نهايته مسألة وقت.
حصاد الأخطاء
من السهل اليوم انتقاد "بوتين" في ظل تهاوي صورته، ولكن لا بد من تسجيل أسباب وصول روسيا إلى الوضع الذي هي فيه اليوم. قام الرئيس الروسي بعدة أخطاء في مسيرته في السلطة، ولكن أهمها اعتقاده أنه بإمكانه التعايش مع الفساد، بل جعل الفساد مدماكاً لسلطته ولم يعتبره خطراً طالما هو تحت رعايته، ولكنه اكتشف مؤخراً أن الفساد تفشى في دوائر الحكم أكثر مما سمح له وتسلل حتى إلى المؤسسة العسكرية، بل إلى جهاز مخابراته الذي يعتبر السبب الأول في تعثره في أوكرانيا، بالإضافة الى اعتباره الفساد وسيلة سلطة، استوحى "بوتين" من الاستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط التي استنبطت ميليشيات في اليمن والعراق ولبنان، ومن فشل الولايات المتحدة عسكرياً في أفغانستان وحتى في العراق ومن ظهور "داعش" ومن انكفاء فرنسا عسكرياً في مالي، أن تأسيس ميليشيات غير نظامية خاضعة لسلطته هو الوجه الحديث لحروب اليوم وهو أفعل بكثير من شن الحروب التقليدية. ولكنه نسي أن الميليشيات "الوفية" يجب أن تكون قائمة على ايديولوجية أولاً وليس فقط على المال. وأخطأ أيضاً بشكل فادح عندما أطلق حملته على أوكرانيا في ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠٢٢ من دون أن تكون هناك خطة "ب"، كما تمادى في الخطيئة عندما غرق جيشه في وحول مدينة صغيرة مثل "باخموت" في الدونباس الأوكراني لأكثر من عشرة شهور قبل أن يحسم الموقف هناك "يفغيني برغوجين" طباخه السابق ورئيس ميليشيا "فاغنر" المكونة من مرتزقة ومحكومين في السجون الروسية. أما الخطأ الآخر والذي صب حتى الآن في مصلحة العالم كله فهو أنه أطلق كل أنواع التهديدات إلى الغرب من دون أن ينفذ أياً منها.
بريغوجين" خطر غير مرحب به
بعد ساعات من إعلان "بريغوجين" نيته التوجه إلى العاصمة الروسية قام البيت الأبيض بإبلاغ الكرملين عن طريق سفيرة الولايات المتحدة في موسكو "لين ترايسي" أنه يعتبر انقلاب مجموعة "فاغنر" شأناً روسياً داخلياً لا علاقة له به وتمنت السفيرة على السلطات الروسية تأمين حماية السفارة الأميركية في حال تدهورت الأمور في العاصمة الروسية. الرسالة كانت كافية لطمأنة "بوتين" أن الأمريكيين لن يدعموا "بريغوجين" ولن يعترفوا به مهما تمادى في انقلابه. وتبين بعد ذلك أن المخابرات الأميركية كانت على علم بما يخطط له رئيس "فاغنر" وأنها ابلغت القيادة الأوكرانية بذلك من دون أن يتضح إذا كانت مررت المعلومات للكرملين. رغم كل ما قيل عن امكانية وجود دعم أو تشجيع غربي ل"بريغوجين" الا أن العالم كله بما فيه ألد أعداء "فلاديمير بوتين" لا يرغب في وصول زعيم "فاغنر" الى مركز القرار في روسيا نظراً لتفلته من كل قيود ومن قدرته على تنفيذ التهديدات النووية التي اطلقها "بوتين".
انكسر أو انتصر؟
الاتفاق الذي تمكن من انجازه رئيس بيلاروسيا "ألكسندر لوكاشينكو" كان نتيجة أمرين: قناعة "بريغوجين" أن موكبه سيتعرض لغارات جوية من الجيش الروسي تقضي على معظمه فيصبح مجرد متمرد هارب بين المدن الروسية. في المقابل تراجع "بوتين" عن تهديده "بانزال أشد أنواع العقاب بالخونة" لأنه تنبه أن قصف الطائرات لموكب "فاغنر" يعني قصف مناطق روسية بسلاح روسي وهذا أمر لم يحصل في تاريخ روسيا ويمكن أن يتطور الى خلق رأي عام روسي مناهض لسلطة الرئيس الروسي. بين استخدام اليد الحديدية والحفاظ على التعاطف الشعبي معه اختار "بوتين" حماية شعبيته. صحيح أن صورته اهتزت، ولكن ترميمها ممكن خاصة في حال استطاع صد الهجوم الأوكراني المضاد في الدونباس وتحقيق بعض المكاسب الميدانية لطمأنة شعبه أن جيشه لا زال يمسك بزمام الأمور رغم رحيل "فاغنر".
الرئيس الروسي اشترى وقتاً قصيراً بثمن باهظ، صورته كرجل قوي.