بقلم خالد عوض
الأنظار كلها متجهة نحو شهر حزيران (يونيو) المقبل. الموعد لا علاقة له بالحرب الروسية الأوكرانية أو بالاتفاق السعودي الإيراني ولا حتى بمقعد رئيس الجمهورية اللبنانية الذي لا زال يبحث عن جليس. في الشهر المقبل يمكن أن تلجأ إدارة الرئيس الأميركي "جو بايدن" إلى خطوات استثنائية لرفع سقف الدين العام الأميركي إذا فشلت المفاوضات في الكونغرس بين المعسكر الجمهوري المسيطر على مجلس النواب والمعسكر الديموقراطي صاحب الأكثرية في مجلس الشيوخ. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يختلف فيها الحزبان على مسألة رفع سقف الدين العام، ولكن الخلاف المستجد يأتي في مناخ مالي غير طبيعي ومن الممكن أن يطيح بالنظام المالي العالمي كما نعرفه.
إبريق الدين
الدين العام الأميركي سيتجاوز ٣٣ ألف مليار دولار قبل نهاية عام ٢٠٢٣. خدمة هذا الدين، أي الفوائد التي ستدفعها الحكومة الأميركية لحاملي سندات الدين، ستناهز هذا العام حوالي ٤٠٠ مليار دولار وهو أكثر مجموع ما تنفقه الولايات المتحدة على التعليم والزراعة والفضاء والكوارث الطبيعية والمساعدات الخارجية. سقف الدين المسموح به هو ٣١،٤٦ ألف مليار دولار وسيتم تجاوزه خلال الأسابيع المقبلة أي خلال شهر حزيران (يونيو). المقبل وحتى تتمكن الولايات المتحدة من الوفاء بالتزاماتها لا بد لها من تجاوز السقف الحالي أي المزيد من الاستدانة التي تتطلب موافقة جديدة من الكونغرس. الجمهوريون اشترطوا إصلاحات بنيوية تتضمن خفض التقديمات الاجتماعية والصحية وهذا ما يرفضه تماماً فريق "بايدن" والمعسكر الديموقراطي الذي يريد رفعاً لسقف الدين من دون أي شروط. الخلاف على رفع سقف الدين أصبح تقليداً في السياسة الأميركية وجزءاً لا يتجزأ من الكباش الديموقراطي الجمهوري، عمره أكثر من ٤٠ سنة ويتكرر كل سنتين أو ثلاث ومرات سنويا، ولكنه يحمل هذه المرة بعداً جديداً لأن مجلس النواب ذي الأكثرية الجمهورية وافق على رفع السقف بشروط أصبح من الصعب التراجع عنها. في المقابل من شبه المستحيل أن توافق إدارة "بايدن" على أي شرط من شروط الجمهوريين، متسلحة بأن النفقات التي تتطلب مزيداً من الديون مدرجة أساساً في الموازنة التي اقرها الكونغرس. وفي حال فشل الكونغرس في التوصل إلى حل يرضي البيت الأبيض بدأت وزارة الخزانة الأميركية تلمح إلى إمكانية اللجوء إلى حلول غير مألوفة مثل السندات المميزة (Premium Bonds) والعملة البلاتينية (Platinum Coin).
الابتكار حتى في الاستدانة
بالنسبة للسندات المميزة فهي عبارة عن سندات خاصة تصدرها الحكومة للجمهور بآجال قصيرة محددة وفوائد أعلى من فوائد سندات الخزينة ويكون سعرها أعلى من سعر سندات الخزينة فتستقطب من خلالها أموالاً إضافية من خارج سياق الدين العام الموافق عليه من قبل الكونغرس. الخيار الثاني هو إصدار عملة بلاتينية أي قطع نقدية من البلاتين بوزن مرتفع ونقاوة استثنائية توازي قيمتها الدين التي تريد الحكومة الحصول عليه لتمويل نفقاتها. تطلق الحكومة هذه العملة الجديدة ومن ثم تقوم بتخزينها في خزائن الاحتياطي الفدرالي كأصول مالية ثم تقوم باستخدام المقابل المالي لهذه الأصول لسداد فوائد الدين وتمويل مصروفات أخرى. بهذه الوسائل غير المألوفة يمكن للإدارة الأميركية التحايل على رفع سقف الدين العام من دون الحاجة إلى موافقة الكونجرس.
كل الطرق تؤدي إلى تراجع الثقة
في جميع الأحوال ليس هناك من سيناريو جيد في الأفق. تعثر الحكومة الأميركية سيكون زلزالاً مالياً. ولعبة عض الأصابع بين الجمهوريين والديموقراطيين لن تكون كما كانت في الأعوام السابقة لأسباب كثيرة. هناك أزمة البنوك المحلية التي يحاول البنك المركزي اخمادها عن طريق دعم المصارف الكبيرة مثل "جي. بي. مورغان" وحثها على شراء البنوك المتوسطة التي تعاني من خسائر كبيرة وشح في السيولة. ومن جهة أخرى هناك التضخم الذي يهدد الدولار الأميركي قيمة ومكانة والذي يحاول رئيس الاحتياطي الأميركي "جيروم باول" لجمه عن طريق سعر الفائدة من دون نجاح كبير حتى الآن. أما لجوء "بايدن" إلى وسائل غير تقليدية للاستدانة فهذا مسار خطير للغاية إذ يضعف الثقة بالاقتصاد الأميركي ويزيد من خطر التضخم في الولايات المتحدة والعالم. وأخيراً هناك التململ العالمي المتزايد من الارتباط بالدولار بسبب سلاح العقوبات وبسبب التعب العام من الأحادية الأميركية.
اسابيع قليلة تفصلنا عن موقعة الدين في الكونغرس وردة فعل إدارة "بايدن". صحيح أن الولايات المتحدة لن تنشغل تماماً عن اهتماماتها العالمية وحضورها الدبلوماسي والعسكري، ولكن ما يحصل حالياً ينبئ ببداية قريبة لمعركة الرئاسة الأميركية بعد أقل من سنة ونصف ولذلك سيحاول فريق "بايدن" أن يرتب الملفات الخارجية خلال الشهور القليلة المقبلة قبل أن يغرق في اللعبة الداخلية وفي مواجهة جديدة بين المخضرمين "بايدن" و منافسه الرئيس السابق" دونالد ترامب".