بقلم خالد عوض
إذا كانت روسيا تعاني من العقوبات ومن "حرمان" مواطنيها من الـ"بيزا هات" أو الجبنة الفرنسية، فإن أوروبا تدفع ثمناً باهظاً للحرب الطاحنة في أوكرانيا، لم تكن تتوقعه حتى في أحلك السيناريوهات. المسألة لا تتعلق فقط بإمدادات الغاز المقطوعة من روسيا أو بفاتورة التسلح التي تقصم ظهر الموازنات الأوروبية بل تتعدى كل ذلك لتصيب مستقبل الاقتصاد الأوروبي وإمكانية تحول بعض الدول الأوروبية التي تحتل المراتب الأولى في ما يسمى بالعالم الأول إلى دول تتذيل قائمة أعضاء العالم الثالث.
بريطانيا لم تعد عظمى
قبل وفاة ملكة بريطانيا "اليزابيت الثانية" منذ أيام تسلمت "ليز تراس" المهمة الصعبة في رئاسة الحكومة البريطانية. وأعلنت أول وصولها عن تخصيصها أكثر من ١٥٠ مليار جينه إسترليني لوضع سقف مالي على فاتورة الطاقة لكل بيت في بريطانيا لمدة سنتين ابتداء من تشرين الأول (أكتوبر) الآتي بحيث تغطي الحكومة أي مبلغ فوق مستوى ٢١٠٠ جنيه إسترليني سنوياً. التقديرات الأولية تشير إلى أن هذه الخطة ستتجاوز كلفتها ١٢٠ مليار جينه استرليني بل يمكن حتى أن تتخطى ١٥٠ مليار جنيه إسترليني وستتحول هذه المبالغ إلى شركات الطاقة حتى تغطي الزيادة المتواصلة بأسعار المحروقات التي تستوردها. المصطلح الدقيق لهذه الخطة والمعروف في دول العالم الثالث مثل لبنان هو "سياسة دعم المحروقات" وهذا تعبير شبه محرم في قاموس صندوق النقد الدولي أو على الأقل في النسخ التي يوزعها في العالم الثالث!
خطة "ليز تراس" ستضاعف عجز الموازنة البريطانية وستضطر الحكومة إلى المزيد من الاستدانة لتغطيتها. الدين العام البريطاني تجاوز ١٠٠ بالمئة من الناتج المحلي ومع هذه الخطة سيقفز خلال سنة إلى ١١٠ بالمئة منه في ظل الفائدة المرتفعة على الجنيه والتي من المتوقع أن تقفز إلى ٣ بالمئة قبل نهاية العام من مستواها الحالي أي ١،٧٥ بالمئة. في الوقت الذي تحاول فيه رئيسة الحكومة الجديدة تخفيف عبء التضخم عن كاهل البريطانيين عبر دعم أسعار الطاقة تغرف من الديون بشكل لم تشهده بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية. وبالمناسبة فإن آخر قسط من الدين العائد إلى هذه الحرب سددته بريطانيا إلى الولايات المتحدة أواخر عام ٢٠٠٦ أي بعد ستين عاماً من انتهاء الحرب! هذه الهرولة إلى الاستدانة ستتطلب المزيد من خلق العملة أي زيادة الكتلة النقدية في الأسواق البريطانية وهذه هي الشرارة الأولى للتضخم. خطة "ليز تراس" هي شراء للوقت لتجنب فوضى اجتماعية ولكنها إغراق لبريطانيا في بحر الديون وتحميل أجيال المستقبل أعباء مالية من الصعب تغطيتها في ظل تواضع النمو الاقتصادي، والتسبب في مزيد من التضخم في وقت تجهد البنوك المركزية حول العالم لمحاربة التضخم.
أسعار الفائدة خلف سراب التضخم
تراكم مشاكل إمدادات الطاقة وارتفاع أسعار السلع يجعل من الحرب على التضخم التي تشنها البنوك المركزية الغربية بصعوبة وضبابية الحرب في أوكرانيا. منذ أيام أعلنت رئيسة البنك المركزي الأوروبي "كريستين لاغارد" عن رفع سعر الفائدة على اليورو ثلاثة أرباع نقطة وهو أكبر رفع يقوم به البنك منذ اعتماد اليورو كعملة أوروبية موحدة. وأكدت "لاغارد" أن هذه الزيادة لن تكون الأخيرة بل ستتبعها زيادات كبيرة أخرى قبل نهاية العام. سلاح رفع الفائدة الذي ترفعه معظم البنوك المركزية الغربية ضد التضخم هو أيضاً العامل الذي يسرع في زيادة الدين العام وتباطؤ النمو الاقتصادي. بالنسبة لدول مثل اليونان وإيطاليا والبرتغال التي تعاني من نسبة عالية من الدين العام مقابل ناتجها المحلي، ستؤدي سياسة رفع الفوائد إلى تفاقم عجز موازناتها وتعرض استقرارها السياسي والاجتماعي إلى هزات لا تحمد عقباها وإلى حاجتها الماسة لحزم من المساعدات المالية تخرجها من حلقة الدين التي تخنق اقتصادها. أما إذا لم تنجح سياسة رفع الفائدة في كبح التضخم فإن المشاكل السياسية والمالية والاجتماعية بالنسبة لهذه الدول ستتضاعف.
أوروبا عكس السير بيئياً
في عام ٢٠٢١ تسابقت دول العالم في إعلان أهدافها البيئية وتحديد تواريخ وصولها إلى مستوى صفر انبعاثات كربون وكانت أوروبا الأكثر طموحاً، إذ أعلنت عن نيتها لتخفيض انبعاثات الكربون حوالي ٥٥ بالمئة عن مستواها عام ١٩٩٠ عام ٢٠٣٠ على أن تصل إلى صفر انبعاثات مع حلول سنة ٢٠٥٠. ما يحصل في أوروبا اليوم بسبب انقطاع الغاز الروسي هو نقيض كل الطموحات المعلنة. ألمانيا أخرت إقفال محطات الكهرباء التي تعمل على الفحم الحجري وكذلك فعلت النمسا وبريطانيا وهولندا. هناك مشاريع لأكثر من ١٢٠ محطة تغويز جديدة في أوروبا لتعويض العجز في الغاز الروسي. هذه المحطات وخطوط الأنابيب الجديدة ستبقى لسنوات طويلة أي أن اعتماد أوروبا على الغاز لن يتوقف قريباً. صحيح أن أوروبا ما زالت تسعى لأن تصبح الطاقة الشمسية مصدر الطاقة الأول لها عام ٢٠٣٠ بحجم حوالي ٦٠٠ جيغاوات إلا أن استمرار الحرب في أوكرانيا لفترة طويلة وفرضها نفقات لم تكن في الحسبان يمكنه إجهاض كل هذه الطموحات التي تعتمد أساساً على الديون.
لا شك أن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" ينظر إلى أرقام الديون الأوروبية بسخرية وشماتة، ولكنه في الوقت نفسه يعرف أن ما تفعله أوروبا اليوم لم يسبق أن فعلته منذ الحرب العالمية الثانية أي أنها انخرطت في الحرب الأوكرانية إلى آخر نفس مالي لديها.
سياسة عض الأصابع بين روسيا وأوروبا مستمرة. الأولى تستنزف عسكريًا والقارة العجوز تستنزف مالياً. إذا لم يكن رفع العلم الأبيض بالنسبة للطرفين احتمالاً ممكناً خلال سنة يعني أنهما متجهان بالسرعة نفسها إما إلى المواجهة المباشرة أو إلى المجهول الاقتصادي.