تفاصيل الخبر

هجرة الآباء اللبنانيين يدفع بالمرأة إلى تحمّل أعباء هائلة

05/10/2022
هجرة الآباء اللبنانيين يدفع بالمرأة إلى تحمّل أعباء هائلة

غالباً ما تُفقد الهجرة الأب دوره في العائلة، فيشعر بأنه دخيل على أسرته.

بقلم كوزيت كرم الأندري

 

من لم يسبق له أن هاجر... هاجر في السنتَين الماضيتَين. ومن هاجر سابقاً وعاد إلى ربوع الوطن، حزم حقائبه وهاجر من جديد. بين من سافر ومن يطمح للسفر، يعيش اللبناني بين هلالين. ففي ظل الوضع الاقتصادي الخانق هذا، تستمر الهجرة الجماعية الكثيفة منذ تفشّي جائحة كوفيد 19 وتدهور الوضع المعيشي في البلاد. هجرة ضخمة هي الثالثة من نوعها عبر تاريخ لبنان، يُتوقع أن تمتد لسنوات.

 

حمَلَة الجنسيّة الأجنبية والإقامات هم أوّل من غادر بيروت خلال الأزمة الأخيرة. وبالرغم من الجانب الإيجابي المتمثّل بالتحويلات المالية من قِبل أرباب الأُسَر، والتي تولّد نوعاً من الاستقرار الاقتصادي، إلا أن هجرة الأب تُضاعف من الأعباء المُلقاة على كاهل الأم، فتصبح مُجبرة على لعب الدورَين، دورها ودور زوجها في تسيير أمور العائلة واتخاذ القرارات بالإضافة إلى الاعتناء بكل شؤون الأولاد، من الدراسة إلى النشاطات مروراً بحياتهم الاجتماعية، إلخ. وتشير دراسة نشرتها "الشركة الدولية للمعلومات"، في هذا الإطار، إلى ارتفاع عدد المهاجرين والمسافرين إلى حوالي 79000 شخص عام 2021، مقارنة بـحوالي 18000شخص عام 2020، علماً أن سنة 2021 سجّلت العدد الأكبر من المهاجرين والمسافرين خلال الأعوام الخمسة الماضية.

كان من الصعب على ريتا، الأم لثلاثة أولاد، أن تتقبّل سفر زوجها إلى كندا. "تزوجنا منذ ثماني عشرة سنة، تقول ريتا، ومذّاك الوقت لم نفترق يوماً زوجي وأنا. إنها المرة الأولى التي أواجه فيها وضعاً صعباً ومُضعضِعاً كهذا. أشعر أنني مبتورة، وأعيش في قلق مستمر. قلق مواجهة صعوبات الحياة بمفردي، من دون سند، لا سيما في ما يتعلق بأولادي ومشاكلهم اليومية". وعمّا إذا تأثّر الأولاد بسفر أبيهم تقول ريتا: "صغير البيت بكى حين استيقظ في الصباح ولم يجد أبيه. عاتبنا لأننا لم نوقظه ليودّعه. لقد أيقظناه، لكن النّعس كان يغلبه فيغمض عينَيه من جديد. لا أستطيع أن أسترجع تلك الليلة، تتابع ريتا. كانت موحشة وقاسية وباردة. كان المجهول ينتظرنا جميعاً. زوجي كان محبطاً لِتَركنا هنا، ونحن كنا قلقين من كيفيّة إدارة شؤوننا وشؤون البيت من دونه". تتنهّد ثم تضيف: "المردود المادّي مهم، لكنه لا يسدّ فراغاً عاطفياً ضخماً".

  قد لا يعبّر الطفل عن ضعضعته جرّاء البُعد عن والده، لكنه يخزّن الحزن ويظهره بطرق مختلفة.

"العاطفة ما بطّعمي خبر"

"غالباً ما أبكي بصمت على وسادتي بعد قضاء يوم طويل بين مسؤوليات البيت والحياة والأولاد والتدريس...". بهذه الكلمات تختصر ريما معاناتها منذ هاجر زوجها إلى إفريقيا. "ما أوصلنا إليه الحكّام المتعاقبين على هذه البلاد هو حرمان الأب من سعادة العيش مع أبنائه وحرمان الزوج من زوجته والزوجة من زوجها. إنها معاناة متشعّبة يعيشها كلٌ منّا على طريقته. الأولاد حزنوا لفراق والدهم لكنهم لم يعبّروا كي لا يضاعفوا من حزني، فراحت نتائجهم تتراجع في المدرسة قبل أن نتدارك الوضع مع الطبيبة النفسية ونعالجه تدريجياً. قد لا يعبّر الطفل، تقول ريما بحرقة، لكنه يخزّن الحزن ويظهره بطرق مختلفة". وعمّا تبدّل في حياتها كأنثى بعد اغتراب زوجها تقول ريما: "نسيت أنني إمرأة. فأنا أكافح كالبولدوزر يومياً وأشعر، في لحظات، بأن لا قدرة لديّ على تحمّل كل تلك الأعباء. أنكسر، قبل أن ألملم نفسي وأكمل الطريق من جديد. أكمل مُرغمة لأنني بتّ السند الوحيد لأولادي".

          حال زوج رنيم كحال الآلاف من الرجال الذي وجدوا أنفسهم خارج البلاد في السنوات الثلاث الأخيرة. "كان القرار صعباً جداً، تتذكّر رنيم، لكنه كان للأسف الخيار الوحيد. فلو ظلّ زوجي هنا "لنهشت لحمنا الكلاب". من أين كنت سآتي بفاتورة المولّد الكهربائي التي وصلت إلى خمسة ملايين ليرة ونصف، وهذا كان تقريباً راتب زوجي لو بقي هنا؟! كيف كنت سأدفع أقساط المدرسة التي باتت تتخطى المئة مليون ليرة سنوياً؟ بين أن يجوع أولادي "ونتبهدل" وبين البُعد، أختار البُعد وإن مُرغمة. "العاطفة ما بطّعمي خبز". تصوّري أنهم أجبرونا على الاختيار ما بين العيش بكرامة والعيش كعائلة مع بعضنا البعض، وكأننا لا نستطيع أن نحصل على الاثنين معاً!

 تقول ريما: "نسيت أنني إمرأة. فأنا أكافح كالبولدوزر يومياً وأشعر في لحظات بأن لا قدرة لديّ على تحمّل كل تلك الأعباء.

حين يتحوّل الرجل إلى صرّاف آلي!

عن هذا النزيف في الرأسمال البشري جرّاء الأزمة التي أدّت إلى انخفاض قيمة العملة الوطنية، يتفق الخبراء على أن غياب عاطفة الأب والزوج يخلق نوعاً من الخلل داخل الأسرة. قد يتعرّض الطفل لضرر نفسي لا يعبّر عنه بشكل مباشر، فيظهر في سلوكياته المدرسيّة أو علاماته. كذلك يُفقد السفر طويل الأمد الأب دوره داخل العائلة، وحين يصبح نظام الأسرة مبرمجاً على غياب الرجل، يقول المتخصصون في هذا الشأن، يشعر الأخير بأنه دخيل على أسرته.

          لا ننسى أيضاً أن سفر الأب يجعل أحياناً بكر العائلة يتحمّل مسؤولية إضافية، فيسبق عمره ولا يعيشه كما يجب. ومن النتائج السلبية التي تولّدها هجرة الأزواج الخيانة، والتي ينتج عنها الطلاق في بعض الحالات. كذلك تخفّض هجرة الأزواج من نسبة الإنجاب، وبالتالي تبدّل من ديموغرافية البلد على المدى البعيد.

          وفي هذا الإطار، يشدّد الخبير في التنمية الاجتماعية رمزي بو خالد على دور المرأة في تمرير الرسالة بالشكل الأنسب إلى أولادها، بحيث تفسّر لهم حيثيّات سفر والدهم مع التركيز على الناحية الإيجابية من الموضوع. "لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تسهّل المسألة في أيامنا هذه، يقول بو خالد، فيتواصل أفراد العائلة بالصوت والصورة مع بعضهم البعض باستمرار. لا بدّ من الحفاظ على الروابط العائلية بالرغم من البُعد الجغرافي، بحيث يظل الأب يتابع مع أفراد عائلته تفاصيل حياتهم والأحداث التي تتخلّلها، لا سيما المناسبات الهامّة سواء المرتبطة بالأولاد أو بزوجته، وإلا لشعر أنه خارج أسرته. وأركّز هنا على ضرورة التعبير عن العاطفة والمشاعر والاشتياق، وألّا تخفت نسبة التعبير بسبب البُعد. ثم إن هناك مسائل قد لا يتحدّث فيها الطفل أو الشاب مع أمّه بل يتناولها مع أبيه الذي يمثّل مصدر السلطة وبالتالي القوة للولد، من هنا ضرورة بقاء الأولاد على تواصل تام معه. فالأم بطبيعتها "تتساهل" بعض الشيء مع أولادها لأن عاطفتها تغلب في تعاملها معهم، لذا من المهم جداً أن يقوم الأب، ولو من بعيد، بخلق توازن وبضبط الأمور في المسار التربوي".

          ولفت بو خالد إلى ضرورة عدم تحوّل الزوج والأب إلى مجرّد صرّاف آلي! "فهو، والكلام له، إبتعد قسراً عن أفراد عائلته ويشقى في الغربة لتأمين حياة كريمة لهم، "ما راح ليكزدر"، وبالتالي يجب أن نفكر في الحِمل الذي يرزح تحت وطأته هو أيضاً وليس فقط المرأة. لذا من المهم جداً ألّا يختزل الشقّ المادي النواحي الأخرى من حياة الأسرة، وأن يقرّب البُعد من الرّابط بين أفرادها لا أن يبعّد بينهم. وفي حال شعر الزوج أو الأب أن غيابه يؤثّر سلباً أو يضعضع هذه العلاقة الأسرية، عندها، يختم بو خالد، عليه أن يختار بين أحد الحلَّين: إمّا أن يعود إلى جوار أسرته، أو يأخذها إلى جواره".

 رمزي بو خالد: يبتعد الرجل قسراً عن أفراد عائلته ويشقى في الغربة لتأمين حياة كريمة لهم، لذا يجب أن نفكّر في الحِمل الذي يرزح تحت وطأته هو أيضاً.