بقلم عبير أنطون
تحلّ السنة الجديدة على اللبنانيين ويد كلّ واحد منهم على قلبه مما يعدهم به العام من"هدايا" ضريبية" تقضّ مضجعهم، مع رفع سعر الدولار الجمركي وسعر الصرف الجنوني، وبين الهدايا المرتقبة ارتفاع سعر الفاتورة الكهربائية التي ستضيف اعباء على الجيوب. وسط هذا كله، برز نموذج لمنزل بيئي تناولته الوسائل الاعلامية على اختلافها على اعتبار ان البيت يشكل نموذجا لاكثر من سبب، ويغيب عن كاهله دفع الفواتير بحكم انه يشغّل ذاته بذاته. كيف ذلك؟
الجواب عند نزارحداد، مهندس البيت البيئي. فأين يقع هذا البيت، وما هي المواصفات التي يتميّز بها؟ لم استقطب كل هذا الاهتمام، وهل يمكن لنموذجه ان يُعمَم ؟
"الافكار" تصف لكم البيت ومميزاته وتعود بمختلف الاجوبة ...
في آب( أغسطس) من العام 2018 عُرض في مقر الأمم المتّحدة في نيويورك، بيت "صغير، مكتف ذاتيا" تم تصميمه من قٍبل منظمة الأمم المتحدة للبيئة ومركز النظم البيئية في الهندسة المعمارية في جامعة ييل في الولايات المتحدة الأميركية، وقد وُصف بأنه "يمكن أن يحدث ثورة في الطريقة التي نفكر بها حول الإسكان في جميع أنحاء العالم، حيث تصبح مواد البناء أكثر ندرة." وقد هدف التصميم التجريبي يومها " إلى جعل الناس يفكرون في سكن لائق وبأسعار معقولة، يحدّ من الإفراط في استخدام الموارد الطبيعية ويساعد في محاربة الآثار المدمرة لتغير المناخ، إذ يعتمد المنزل التجريبي بالكامل على الطاقة المتجددة".
وقد بلغت مساحة هذه الوحدة التجريبية للمنزل الصديق للبيئة حوالي 22 مترا مربعا تقريبا، أي ما يعادل 200 قدم مربع. ويتألف من غرفة واحدة مع دور علوي أو سرير قابل للطي، مزود بأنظمة تخزين خفية، ووسائل راحة مثل المطبخ. وقد تم تصميم هذا المنزل خصيصا ليكون متوافقا مع المناخ الموسمي البارد لفصل الشتاء في نيويورك، والصيف الحار في عواصم عالمية أخر كنيروبي في كينيا مثلا.
وقد تألف البيت من سقف مزود بألواح شمسية قادرة على التقاط أشعة الشمس وتحويلها إلى كهرباء لتشغيل الأجهزة والإضاءة في الوحدة، أما نظامه المائي، فهو قادر على التقاط مياه الأمطار فضلا عن توليد مياه صالحة للشرب من الرطوبة المستمرة في الهواء.ويعمل الجدار الداخلي للوحدةعلى تنقية الهواء فيما يستخدم الجدار الخارجي للزراعة الصغيرة.
وارتكازا على هذه المبادئ، بدأت شركات العقارات من حول العالم بالتوجه إلى البدء بتقديم وتنفيذ مشاريع منازل صديقة للبيئة ، حيث أن بناء عقار "أخضر"لا يعود بالنفع فقط على البيئة، إنما يعود بالنفع الكبير ايضاعلى اقتصاد الدول. فقد أكدت الدراسات والأبحاث البيئية أن المنازل الخضراء ستمنح الدول اقتصادا قويا على المدى الطويل لأنها ستوفر الكثير من الأموال التي تنفقها الدولة للحد من مخاطر الاحتباس الحراري، والبحث عن بدائل للموارد الطبيعية الغير متجددة. وبغير شركات العقارات لا بد من الاشارة ايضا الى فورة الكثير من الصناعات الصديقة للبيئة كالسيارات "الهجينة" والسيارات الكهربائية، فضلا عن الكومبيوترات،وبينها مثلا أول حاسوب صديق للبيئة تمت صناعته في إيرلندا، فضلا عن العديد من منتجات التنظيف المنزلية لضمان أن تكون بيئة المنزل صحية، الى معدات رياضية صديقة للبيئة تقوم بتوليد الكهرباء عن طريق الركض والمشي الخ...
بسكنتا نموذجا...
لبنانيا، وفي بلدة بسكنتا المتنية تحديدا، بيت اخضر صديق للبيئة يعد نموذجا اول في لبنان والشرق الاوسط صممه وبناه المهندس نزار حداد على مدى خمس سنوات بمساعدة عمال ومتطوعين.
بدأت فكرة المشروع بوحي من الأزمات البيئية والخدماتية التي يعاني منها لبنان، التي ولّدت لدى المهندس المعماري الشاب تصوراً يعالج هذه المشكلات، بدءاً من المنزل الذي نعيش فيه. وقد شكّلت أزمة النفايات الشهيرة في العام ٢٠١٥ الدافع الأساسي للانطلاق، فتشكل فريق عمل من عدة أشخاص قرروا تنفيذ المشروع. العمل كان معظمه يجري في فصل الصيف لصعوبات العمل الجمة في فصل الشتاء. الا ان هذه الصعوبة لن يشهدها البيت، ذلك انه مهندسه عمل على ان يوفّر فيه حرارة معتدلة صيفاً وشتاءً، وفق نظام"بيو كليمايت"، محافظاً على درجة حرارة مستقرة على مدار السنة، لكونه مصمَّماً بحيث يحفظ البرودة خلال الصيف ويخزّن في داخله الحرارة في الشتاء.
و"بكلفة بناء توازي بناء أي منزل غير بيئي آخر"، وبما يعتبره " استثماراً ناجحاً على المدى الطويل ويوفّر جميع فواتير المياه والكهرباء والطاقة " عمل المهندس نزار حداد على بيته بحماسة. وهذا المنزل يمكن ان يمتد أفقياً على مساحة كبيرة، لكن لا يمكنه الارتفاع أكثر من طابقين.
وإن كان المنزل الذي اطلق عليه مهندسه اسم" بيت العمر"او " لايفهاوس" كأي منزل عادي بحاجة إلى أعمال صيانة دورية، فإن لديه القدرة على تعويض تقصير الدولة اللبنانية في ما يتعلق بتأمين الكهرباء والماء وغيرهما من الخدمات، إذ يمكنه تأمين طاقته بنفسه عبر استخدام الطاقة المتجددة كأشعة الشمس والهواء والمياه. كذلك فإنه يتميز بقدرته على استغلال المساحات الخضراء لتأمين الغذاء لصاحبه، واستخدام المياه وإعادة تكريرها. من هذا المنطلق، وعلى امتداد مساحة تبلغ حوالي 180 إلى 200 متر مربع، بنى حداد "بيت العمر" من طبقتين مع حديقة غنيّة بالأشجار المثمرة، معزّزا بذلك مفهوم الاكتفاء الذاتي المكمِّل للمفهوم المنزل البيئي، وضرورة العودة إلى الطبيعة. فهذه تعكس لديه رؤيته لما يجب أن تبدو عليه العمارة البيئية.أما المواد التي استُخدمت في بأعمال البناء فإنها اعتمدت بمجملها على توفير الكلفة وتوفير التلوّث البيئي وتكلفة النقل أيضاً.
استثمار ناجح...
سعر المتر في منزل مشابه لمنزل حداد، يتراوح ما بين 700 إلى 800 دولار، وقد قصد عدد من الزبائن، المهندس لتشييد منازل مشابهة لهم قبيل الأزمة، لكن مع أزمة المصارف والحجز على ألاموال تراجعت الطلبات بطبيعة الحال.
ومع اي مشروع لبناء منزل بيئي، يحدد حداد ثلاثة نماذج للبناء: نموذج يتضمن الأساسيات وهو الأقل كلفة والنموذج العادي متوسط الكلفة والنموذج الفخم. ورغم تعدد النماذج إلا أن شرط إمتلاك قطعة من الأرض كحد أدنى، هو ما قد يعيق اقبال الشباب على المشروع.
ماء وكهرباء...
المياه في منزل" بيت العمر"، لها شبكتها ونظامها الخاص الذي يقوم على تخزين مياه الشتاء والاستفادة منها للاستخدام المنزلي ويُعاد استعمالها، بعد فلترتها، لريّ أحواض الزراعة الخاصة بالخضار والفاكهة على مدار السنة. وبعد الريّ، تُكرَّر هذه المياه وتُخزَّن في خزان لاستخدامها في الحمّام. ومجدّداً، بعد فلترة هذه المياه، يمكن استخدامها للري الخارجي للشتول غير المثمرة. وتُكرّر هذه المياه بطرق عدة، ومنها طريقة يمكن أن تستخرج الغاز لاستخدامه للطهو في المطبخ.
اما بالنسبة للكهرباء فاستخدامها ضئيل، اذ لا حاجة لها بشكل كبير، بسبب عدم استخدام أيّ جهاز إلكتروني للتبريد أو التدفئة. لذلك يُعتمد لانتاجها نوع من أنواع الطاقة المستدامة الخضراء، عبر الألواح الشمسية. وبما أنّ الاستهلاك ليس كبيراً، فإن المنزل ينعم بالاكتفاء الذاتي لناحية الطاقة، دون الحاجة إلى المولدات ولا إلى كهرباء الدولة.
ببيته البيئي هذا من الالف الى الياء، يقدم حداد النموذج الأوّل من نوعه في لبنان والشرق الأوسط بمعايير بيئية، وبكلفة غير باهظة، فضلا عن انه يرفع من مستوى الوعي بالعمارة الصديقة للبيئة، وبما يعتقد أنه "الصيغة النهائية لما ينبغي أن تكون الهندسة البيئية"، لافتاً إلى أنها بنظره "هي الهندسة البديلة اليوم". فحداد ينشد من خلال تصميمه العودة إلى الطبيعة التي "هي جزء من إلهامي في تشييد هذا المنزل " مع الأخذ بالاعتبار طبعا تلبيةً حاجات الأشخاص في الزمن الحديث، الذين تغيّر نمط حياتهم عن النمط القديم"، جامعاً بين تقنيات البناء الحديثة والبناء القديم في تأسيسه، لتقديم نموذج مستحدَث لبناء يعود بسكّانه إلى الطبيعة، ويكتفي ذاتياً من المياه والطاقة والكهرباء والغذاء"، إذ تقوم أفكار المهندس وتطبيقاته على الاستغلال الأمثل للمواد المستدامة المتاحة في الموقع، والزيادة المثلى لاستخدام الطاقة بكفاءة من خلال التصميم الحيوي والمناخي، مع التكامل الشامل للهيكل في بيئته الحضرية.
اما في اعمال البناء، فقد استخدم حداد للمنزل "المكتفي ذاتيا"، االتراب الطبيعي الموجود في الارض، كما استخدم قوارير زجاجية معاد تدويرها بالداخل للإضاءة، فضلا إلى جدران مصنوعة من الإطارات المستعملة. كذلك يحتوي المنزل أيضاً على غرفة زجاجية لها دور مهم في تبريد وتدفئة المنزل.
يعتبرحداد ان "بيت العمر" يشكل نموذجا لمنازل أخرى قد تغيّر من شكل ومضمون وهندسة المنازل في لبنان، حيث الاعتماد على "التصميم البيئي بشكل أساسي"، وحيث الهدف "التقليل من استهلاك مواد الطاقة والمياه، والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة الطبيعية، كالاعتماد على الإنارة الطبيعية من الشمس، للتقليل من الانبعاثات الضارة للبيئة والصادرة من محطات توليد الطاقة الكهربائية، خاصة وان" ثمة مشكلة بالهندسة اليوم لكونها ملوثة للبيئة وتحتاج دوماً إلى تدفئة وتبريد وكهرباء". ويؤكد المختصون بان البيت المنزل أضاف أهدافاً جديدة على طريقة البناء في لبنان.
بين جيلين...
يُذكر أخيرا، ان المهندس نزار حداد هو ابن المعماري جورج حداد الذي يعدّ أحد رواد العمارة الحديثة في لبنان، وقد بدأ العمل عام 1956، ومن أشهر مبانيه دير سان ميشيل وفيلا حداد، كما حوّل "فندق الأمبير" الذي تأسس عام 1904، إلى مسرح. وقد سبق ل"المركز العربي للعمارة" في بيروت ان نظّم جولةً تحت عنوان "جورج ونزار حداد: مهندسان من بسكنتا" في سعي من خلال هذه الجولة البيئية إلى زيارة أبنية من تصميم المعماريَّين الأب جورج والابن نزار والحديث حول حول تاريخ العمارة في بيروت الحديثة، والفروق بين الرؤية المعمارية لجيلَين.