تفاصيل الخبر

معرض"ألو بيروت" يستعيد ستينيات العاصمة: زمن جميل وفساد وسياسات خاطئة ونقطة الانطلاق ارشيف الـ"كاف دو روا"!

01/11/2022
معرض"ألو بيروت" يستعيد ستينيات العاصمة: زمن جميل وفساد وسياسات خاطئة ونقطة الانطلاق ارشيف الـ"كاف دو روا"!

المعرض للجيل الجديد ايضا

 

بقلم عبير أنطون

 

هي الحاضرة في كل زمان... أمكنتها حكايات وذكريات، لوحات وصور، تمسك بيد من يحبها لتأخذه معها في رحلة الى ماضيها المجيد وإن لم يكن كله مزنرا بالورود. هذه هي بيروت التي تعيد تقديم نفسها لنا في "بيت بيروت" مستعيدة صفحات من حقبة الستينيات من تاريخ لبنان، وانما ايضا من حاضرها اليوم.

فما هو معرض "الو بيروت" الفريد من نوعه؟ من انطلق بفكرته ومن يشارك فيه؟ ما الذي جعل صحافية لبنانية فرنسية تدخل على خطه، والى متى يستمر في إعادة بيروت وذاكرتها لنا؟

مع "الافكار"الاجوبة ودخول في تفاصيل المعرض الرائد...

من "بيت بيروت" عند تقاطع السوديكو، المعروف سابقا بـ"مبنى بركات"، الشاهد على تاريخ العاصمة وحماوة الحرب فيها وهو من تجرّح اكثر من مرة من شظايا قنابلها وجعب مقاتليها وبواريد قناصتها والذي شهد على صولات وجولات من المعارك العنيفة والنهب والسرقة انطلق معرض" الو بيروت"المستمر حتى العام المقبل. المعرض التفاعلي الانغماسي يهدف بحسب منظميه " إلى إعادة التفكير في علاقتنا ببيروت، ومساءلة حاضرنا باستعادة تاريخنا في بلدٍ فقد ذاكرته، ويفتقر إلى المعرفة بتاريخه الذي غالبًا ما نميل إلى تجميله لدى الحديث عن ما يسمى عصر بيروت الذهبي. المعرض يشكل توثيقا، او حتى انه يأتي بمكثابة كتاب التاريخ الحيّ عن تلك الحقبة البيروتية ".

 صور، لوحات، تجهيزات سمعية وبصرية وغيرها من ستينيات بيروت تعيد زائر المعرض المجاني الى تلك الحقبة، فتذكّر من عاش تلك الفترة حياة لبنان آنذاك وما كانت تشهده المدينة من نشاطات واحداث وفعاليات، كما وتضع امام الجيل الجديد او البعيدين عن المدينة صفحات تلك الفترة بما فيها، علّ العلاقة مع المدينة تشتد ّ اواصرها من جديد بعيدا عن كآبة الحاضر في العاصمة شبه المنكوبة اليوم.

الفكرة انطلقت مع مديرة المعرض وهي الصحفية الفرنسية اللبنانية، دلفين ابي راشد/ دارمنسي في تعاون مع منى الحلاق، مديرة مبادرة حسن الجوار في الجامعة الأميركية في بيروت، والتي قادت حملة الحفاظ على بيت بيروت وحشد من المهتمين.

 

نيغاتيف في الارض!

  الحكاية بدأت عندما دخلت دلفين دارمنسي المبنى المهجور لأحد أشهر الملاهي الليلية في تلك الفترة في عين المريسة "الكاف دي روا". هنا يروي روي ديب المدير الفني والقيّم على المعرض، ان "دلفين دخلت مبنى الـ"كاف دي روا" منذ 12عامًا ووجدت في الأرض صور نيغاتيف وأرشيف مبعثر وبدأت هذا البحث كله، فانطلقت من أنقاضه وبحثت في محتواه على مدى سنوات حيث عثرت على بقايا أرشيف زاخر بالقصص والأحداث التي لا تصف العصر الذهبي لبيروت قبل الحرب الأهلية في العام 1975 وحسب، وإنما أيضا توثق حقبة من الفساد والسياسات الخاطئة التي سادت يومها".

 لقد دعت دلفين صحافيين وباحثين معها وأشخاصا يجمعون الارشيف إلى التعاون، وهو ما يشكّل القسم الثاني من المعرض الذي هو "إعادة قراءة لبيروت الستينات". انطلق البحث تحديدا من أرشيف شخص اسمه  بروسبيرغي بارا كان، وهو ملياردير لبناني التصق اسمه بالعصر الذهبي لبيروت ما قبل الحرب الأهلية، وكان صاحب فندقين مشهورين في بيروت هما "بالم بيتش" و"إكسيسيور" الذي كان يضم بداخلة "الكاف  دوروا" أشهر ناد ليلي حينها.

  ازدهار ظاهري!

 في أرشيف مالك المبنى المهجور اكتشفت دلفين  قراءات له مقرونة بجملة قصص وحوادث بينها نص لغي بارا نفسه كتب فيه متحدثاً عن الطبقة السياسية حينها:"تلك العقول المريضة، المهووسة بجمع المال"، في إشارة الى ما كان يعتري ناس ذلك الزمن.

وفي السياق ذاته، تخبر قصاصات صحف، وأفلام نيغاتيف، وبيانات دخول مستقاة من أرشيف "الكاف دي روا" عن سياسات رسمية خاطئة وفساد متأصل وإضرابات عامة واحتجاجات طلابية طبعت تلك الحقبة  من تاريخ لبنان. وتتصدّر جريدة المعرض مقالة مكتوبة بالفرنسية في الستينيات على الارجح  للسيد غي بارا إلى جانب صورته له جاء فيها : "يئس اللبنانيون من دولتهم. ومصيرهم معلّق بأيدي سلطات عامة لا تحرّك ساكنًا (...) عاش بلدنا فترة ازدهار ظاهري. والآن يغرق في الفقر الحقيقي. في بلدنا لا نذهب أبعد من وضع حجر أساس لمشاريع لن تبصر النور أبدًا. لا نعرف سوى افتتاح مشاريع سرعان ما تُلغى. دفعُ ثمن بضائع لن يتسلّمها أحد. وإطلاق شعارات فارغة، وتشكيل لجان رمزية لن تُنجز شيئًا. لماذا؟ (...) لأننا نريد أن نكون وسط الأضواء من دون أن نعمل في الكواليس. لأننا (نستغرق) في التباهي، لا في القيادة".

وفي جريدة المعرض البيروتي ما يحثنا على التفكير عميقا بأسباب ما وصلنا اليه اليوم. ففي أخبارها من أزمنة التباهي والتشاوف، نقرأ تحت عنوان "هل تعلم؟" ما يلي:" "في عام 1970 سيطر نحو 20 وسيطًا على 80 في المئة من سوق الحمضيات، و3 وسطاء على ثلث المحصول. وسيطر 25 وسيطًا على أكثر من ثلثي سوق التفاح، و3 وسطاء على ثلث المحصول" وكأنها سياسة  تقاسم للحصص من حفنة من "آكلي الجبنة" عينهم منذ ذاك الزمن.

 وفي زاوية صغيرة من جريدة المعرض نقع على بيان من بنك "إنترا"، ما يذكر بألازمة المصرفية الحالية  فنقرأ من إدارة بنك انترا حينها: "تأسف لإعلام زبائنها أنها مضطرة لإقفال المصرف ابتداءً من 15/10/1966، بسبب فقدانها السيولة النقدية". أي أن المصرف أعلن إفلاسه. وإلى جانب الإعلان مقالة عنوانها: "بعد إنترا إلى أين"؟

 هذه عينة من المقتطفات التي يقدمها المعرض التي تسلط على السياسات الخاطئة و"تعرّي العصر من قشور واقعه الذهبي". هذا لا يلغي بحسب المنظمين انه "كان عصرًا ذهبيًا الا انها  تعيد أيضًا قراءة نقدية تحليلية لمحاولة فهم كل المشاكل التي حدثت في الستينات ونضعها أمام الجمهور بشكل تفاعلي وانغماسي لنحاول فهم هذا التاريخ الذي عشناه في الستينات، واليوم يتكرر ما هو مشابه له حتى نفهم أكثر كيف نتعامل معه". إنها باختصار"إعادة قراءة للستينيات بلا إهمال فكرة إنه كان العصر الذهبي لكن أيضا بطريقة نقدية تحليلية لنفهم أيضا ماذا حصل بهذه المرحلة وصولا للحرب الأهلية بعام 1975".

 بيروت اليوم!

  ما تقدّم يشكّل القسم الثاني من معرض"الو بيروت" اما القسم الاول منه فهو مخصص لبيروت اليوم،  "لتناول حاضر المدينة" بحسب القيّم على المعرض "روي ديب" الذي قام بدعوة ١٠ فنانين لتقديم أعمال فنيّة معاصرة، بحيث قدم كلّ منهم نظرته الخاصة ببيروت اليوم.

 يقول ديب:"جميع تلك الأعمال بتكليف خاصّ من المعرض، وقد تمّ إنتاجها خصيصاً لتعرض في "ألو، بيروت" في متحف بيت بيروت لأولّ مرّة". وتعتمد تلك التجهيزات الفنيّة على وسائط عدّة منها: تجهيزات الصوت والصورة والفيديو، كما التجهيزات الآدائية، والتفاعلية، وتتناول مواضيع ثورة 17 تشرين التي من خلال الثقوب التي تركها المسلحون في جدران مبنى "بيت بيروت، يمكن مشاهدة لقطات من التنظاهرات الاحتجاجية التي عمت لبنان على مدى أشهر بدءاً من   17تشرين الأول   (أكتوبر 2019)، عبر شاشات صغيرة نصبت في فتحات الجدران. ويتناول القسم الاول ايضا، الأزمة الإقتصادية والهجرة والعلاقة مع مدينة في طور الإنهيار، كما الذاكرة المؤلفة لهوية المدينة وتبدلاتها عبر العصور. اما الفنانون فهم: روان ناصيف، بيترا سرحال، وائل قديح، جوان باز، ليلي ابي شاهين، كبريت، كريستيل خضر، إيفا سودارغيتي دويهي، رنا قبوط ورولا ابو درويش، فضلا عن تجهيز صور فوتوغرافية تجمع ماضي ال"كاف دي روا" بحاضر المدينة للمصور الفرنسي ستيفان لاغوت. كما ويفتح المعرض  المجال امام الزوار بارسال فيديوهات ولقطات خاصة بهم عن بيروت بعد ١٧ تشرين ليتم بثها يوميا".

 

هو لهم!

 في اسباب اختيار بيت بيروت لاقامة المعرض يشرح ديب:" كان من المهم لنا أن يكون في بيت بيروت. للأسف  هذا المتحف غير ناشط، مشددا على انه "يجب أن يكون في هذا المبنى الكثير من المعارض ليشعر أهل المدينة أن هذا المبنى لهم وباستطاعتهم الدخول إليه". ومن هذا المنطلق كان فتح المعرض ابوابه للزوار هذه المدة الطويلة "لإحياء المبنى"، وسوف يكون هناك ندوات وحلقات نقاش وعروض بالأديتوريم الذي هو جزء من هذا المتحف وبذلك نعمل على تنشيط هذه المساحة" بحسب ديب، فضلا عن ان" المعرض كبير فيه 25 غرفة والزوار بحاجة للقدوم عدة مرات لتشاهده كله".

 من جهتها تقول الصحافية دلفين دارمنسي "نريد أن تكون هذه المساحة ملكا لأهل بيروت، وهي الطريقة التي أردنا أن يكون بها المعرض مبهرا وتفاعليا كي تشعر إنك جزء منه...إنها الطريقة التي يمكننا بها جذب الناس لأنني أعتقد أن مجرد وضع الأرشيف خلف الزجاج لن يخلق هذا الشعور بالانتماء والاهتمام لدى الجمهور. وكانت  دارمنسي قالت لوكالة الصحافة الفرنسية حول المعرض والهدف منه "بيروت تعاني ونحن نعاني"، لافتة إلى أن الكثير من البؤس الذي يعيشه اللبنانيون اليوم متجذر في أزمات الماضي.

 

بقعة من الزمن...  

يمكن لزوار المعرض  العودة إلى العصر الذهبي عبر 25 غرفة جُهّزت خصّيصاً لتروي كل منها جانباً من جوانب هذه المدينة إن كانت عبر تقنية الصوت والصورة أو عبر الأرشيف.

رولا أبو درويش أخذتنا في "بيت بيروت" إلى واحدة من الغرف اسمها "بقعة من الزمن"  جهزتها بالتعاون مع زميلتها رنا قبوط، لتعيدنا إلى الدمار الذي شهده هذا المتحف المتروك خلال الحرب. وقالت: "الإقبال كثيف ولمسنا حماس الموجودين وتعطّشهم لمعرفة المزيد عن بيروت شارحة:"بُنيت بيروت على الأنقاض. بالنسبة إلي، الأنقاض هي أحد أبرز عناصر بيروت ...إنها جزء من المكان حيث نعيش، وكيف نعيش ومن نحن. وأشعر أن الاتجاه الذي نسلكه اليوم سيتسبب بمزيد من الأنقاض".  

من ناحيتها تقول روان ناصيف وهي منتجة أفلام وثائقية وعالمة أنثروبولوجيا:"أشعر أنني محظوظة.. يمكنني أن أعرض مع "ألو بيروت" ونحن نعيش فيها لذا نعبر فيها بطرق مختلفة..  

 وقد شاركت روان ناصيف في المعرض، عبر وثائقي قصير يعرض تاريخ حي المصيطبة البيروتي، الذي نشأت فيه ثم عادت إليه بعد عقدين لرعاية والديها المريضين قبل وفاتهما خلال العام الحالي. ويُظهر الفيلم تداعيات الخسائر التي تعرضت لها بيروت، وتقول ناصيف في هذا الصدد: "بيروت اليوم تنعى موتاها، وتنعى جميع الفرص التي أتاحتها سابقاً للقاطنين فيها ولروادها، قبل أن تخسرها تدريجياً".

من ناحيته يجمع راوول ملاط في فيلم قصير بين مشاهد مصورة مستقاة من أرشيف العائلة خلال طفولته، ومقاطع أخرى ملتقطة حديثاً لبيروت معلقا:"ساعدني هذا المشروع كثيراً للتعبير عن حزني على بعض أوجه مدينتي التي لن أجدها مجدداً"، فيما وصفت الفنانة التشكيلية لينا كيليكيان المكان ب"الساحر" والذي ينقلنا إلى بيت الأهل والأجداد في زمن الحرب ويخبرنا قصصاً لم نعرفها من قبل، اما الفنان التشكيلي بوب سماحة فعبّرعن سعادته بالمشاركة في هذا المعرض بلوحاته، واعتبر المشروع باباً للعودة إلى عصر العاصمة الذهبي.