تفاصيل الخبر

الممثّل والمخرج المسرحي جهاد الأندري:  نحن أمام مرآة مُشَوّهة لمجتمع تراءى له أنّه يصنع زمناً جديداً... فوقع ضحيّة الإفلاس

02/11/2022
الممثّل والمخرج المسرحي جهاد الأندري:  نحن أمام مرآة مُشَوّهة لمجتمع تراءى له أنّه يصنع زمناً جديداً... فوقع ضحيّة الإفلاس

جهاد الأندري :كنت ولا أزال متمَسِّكاً بميثاق "عدم المُساومة".

 

بقلم كوزيت كرم الأندري

 

هو من القلّة الذين لا يزالون يتوجّعون فكريّاً وسط نُعاس الضمير الفنّي وشخير المبادئ المهنية. بعيدٌ هو عن كرنفال الحريّات والممارسات البهلوانية على وسائل التواصل الاجتماعي (الغائب عنها أساساً). فنّانٌ من سُلالة تكاد تنقرض، لم يُسَق إلى نظام التفاهة والرّداءة كما سيقَ عددٌ كبير من الفنانين. في خضمّ هذا الصّخب الفارغ، هذا الجوّ الفنّي الأجوَف المُرتكز بمعظمه على الفضائح والنّميمة، ومع تكاثر  الـ"مؤثّرين" والـ"فاشينيستات" وتحوّلهم من شخصيات تافهة إلى رموز يُحتَذى بها... وسط منظومة التسطيح الأخطابوطيّة هذه، التي تُغلغِل أذرعَها في مختلف نواحي الحياة لتُحكِم سيطرتها عليها، وفي ظلّ تخدير الفكر النّقدي، أدعوكم إلى رحلة وجيزة نبتعد خلالها عن هذا الضّيق المَعرفي، مع الممثّل والمخرج المسرحي جهاد الأندري، الذي انتقل للعيش في الإمارات العربية المتحدة منذ أربع سنوات.

 

كيف يبدو لك المشهد في لبنان، من حيث أنت واقف اليوم؟

لا يوجد "مشهد" في لبنان. أرى تُخمَة مِن الفوضى الإنسانيّة ابتدأت منذ سنوات، تذكّرني بكلام الشاعر الإيطالي دانتي حين قال: "لم أمُت ولم أكن على قيدِ الحياة". نحنُ على صورة ومِثال هذا الكلام.

إزاء هذا الواقع "المُؤذي نفسياً" دعني أقول، كيف لنا أن نتعرّى من تاريخنا المعاصِر؟

أظنّ أنّ التاريخ سيُكتَب... سيُكتَب، أمّا زَمن النّقاوة والاغتسال فيأتي مُتأخِّراً دائماً. لَو استعرضنا كلّ الأحداث والإنتِهاكات الإنسانيَّة الماضيَة لغاية يومنا، لتلمّسنا ذلك.

الذي لا يمرض في زمننا هذا هو المُصاب بالغباء وببلادة الإحساس. هل توافق؟

طبعاً، لكنني أفضّل كلمة "إستِغباء" على "غباء". حِمايَة الذّات في هذه المرحلَة ضرورِيّة.

 كيف لنا أن نرمّم خرائب الرّوح في زمن السّقطة؟

بالصَّمت العميق الذي هو العمود الأوَّل في التخطيط  ل "زَمن جديد"، وبالاغتِسال بِما هو مُجدي وفق ما يراه كُل فرد لنفسِه. مِنّا من يرى التّرميم بالصلاة، ومنّا من يلجأ إلى مُمارَسَة هِوايَة... لا يَهُمّ، المُهم استِقراء خُطورَة ما يجري للتأمُّل المُعاكس.

التّرفيه عن المُشاهِد لا يعني "الابتذال"، والفَنّ المُلتزم لا يعني "تراجيديا".

ثمّة إصدارات لكُتّاب حول العالم تتناول نظام الرداءة والتفاهة المُمَنهج الذي يتصدّر المشهد اليوم، وما يُسَمّى بالـ Idiocratie أي "أبلَهَة" الإنسان. كيف تفسّر هذا التّدحرج إلى الأسفل؟

ألتعصُّب، التّلاشي، الاستِقالة المَجّانيَّة، الأحادِيَّة، الحريَّة غير المَشروطَة، إجمعيها في مَعالِم شخص واحد تحصُلين على مرآة مُشَوَّهة لمجتمع تراءى له أنّه يصنع زمناً جديداً، لكنه في الحقيقة وقع ضَحيَّة الإفلاس.

تحوَّل الفن، معظم الفن، إلى صناعة، بسبب سيطرة الطابع التبسيطي التنميطي وتضخّم النزعة المادية والاستهلاكية. كيف تقاوم كي لا يتم تدجينُك وإخضاعُك إلى هذا الواقع؟

لا أؤمِن بتألُّق فنيّ من دون تخطيط، ولو استعرضنا رحلتي في هذا المجال على مدار أكثر من ثلاثين سنة، لَوَجدتُني كنت ولا أزال متمَسِّكاً بميثاق "عدم المُساومة". فالتّرفيه عن المُشاهِد لا يعني "الابتذال"، والفنّ المُلتَزم لا يعني "تراجيديا".

نعيش زمن ال"مين ما كان بقول شو ما كان"، بحيث أصبحت هناك منابر للجميع من دون استثناء، تُصدّر لنا تفاهاتهم وأمراضهم النفسية. الجميع يريد أن يشتهر، ولو على حساب اتّزانه العقلي... وأعصابنا! هل الشهرة "شهيّة" إلى هذا الحدّ؟

الشّهرة نتيجة لِتراكُم الظّهور. لا بُدّ أن تظل نتيجة وألّا تتحوّل إلى هدف قائم بذاته. حالة بديعة أن يشعُر المَرء أنَّه مُحاط بأشخاص يحبّونه ويتابعونه، شرط أن يُدرك كيفيّة التعامل مع هذه الحالة. لا شكّ في أنّ سهولة الحُصول على مَنابر أسهَمَت في هذا الخَلَلْ. الاجتهاد في كلّ شيء هو الذي يحمي من الفشل. ما يؤدّي إلى استِنباط الجديد المُختلِف هو العمل الدّؤوب وليس الإختِلاف لمُجَرَّد مُعاكَسَة الأعراف، على غِرار ما يحدُث اليوم.

حين تُمسك بهاتفك وتقوم بجولة على مواقع التواصل الاجتماعي (التكاذب الاجتماعي)، فتنهال عليك الأخبار الفنيّة السّخيفة من كل حدبٍ وصَوب، وترى اكتساح المهرّجين للمشهد العام (القاتم حتماً)، بِمَ تشعر؟

لا أشعُر بِشيء. حينها فقط ألعب دور المُتفرّج، لأنّني أعتبر نفسي غير مَعني لا مِن قريب ولا مِن بَعيد بِما يَحدُث على "السّوشيل ميديا" اليوم. في أيّ حال لستُ مُتفاجِئاً، نظرًا للأداء السّاقط الذي كنت قد استقرأته منذ سنوات، والذي أوصَلنا إلى ما نحن عليه اليوم...

ثمّة فنانات وفنانين عمِلوا على بناء صورتهم خلال عقود، ثم هدَموا هذه الصورة "بكبسِة زِرّ" حين راحوا يقومون بأتفه الأمور على السوشيل ميديا، ظنّاً منهم أنهم يتماشَون مع موجة هذا الزمن "العبيط". ما رأيك بهؤلاء؟

ما نشهده اليوم هو استمرار لنهج كان قد بدأ، للأسف، قبل ظهور وتكاثر المِنصّات الرقميّة، حين راحت محطّاتنا الإعلامِيَّة المحليّة تَعتَبِر أنّ ما هو لافت يكمُن فقط في ما هو نافِر، وأن التّرفيه يَكمُن في الفضيحة. طبعاً سوف تُهدم الصّورة سريعاً، لأنها لم ترتكز لا على خلفيّة ولا على مضمون. هم مفلِسون. ماذا نفعل بمرض الشّهرة؟ في الماضي، كان الموهوب يحلم بالانتساب إلى حلقات إبداعية ثقافية، أما اليوم، فمعظم الوجوه تبحث لتُتخِمَنا بأخبارها السخيفة ولِزَجّنا في غرف نومها وتفاهاتها.

وما رأيك بأولئك الذين يريدون اجتذاب الانتباه بأي ثمن، أولئك الذين يحقّقون ثروة وشهرة "مِن مَشي"؟

هم ظواهِر يَعكِسون صورة حقيقِيَّة لزمنٍ مؤقّت.

مؤقّت؟ وما هي مدّة هذا المؤقت برأيك؟ ألا ترى أنك متفائل بعض الشيء...؟

لست مخوّلاً أن أحدّد الوقت. لا أحد يدري. سوف يمرّ وقت طويل، و"الشاطر اللي بِخلّص نفسو" بتحصين مناعته الذاتيّة.

كان ما كان... وما لم يكن. ما الذي "لم يكن" في حياتك حتى الآن؟ 

ما لم يكن هو "اليوم". نعيش  لِنَبحث عن أمس... ضاعَ من سجِلّ غَدِنا.

أتعتقد أن من يشبهنا، نحن الراديكاليّون الذين عجز نظام التفاهة عن سحقنا حتى الآن... ولن، أتعتقد أننا سنموت متسمّمين بالصّمت؟

الصَّمت لا يُسَمِّم إطلاقاً بل يُضمِّد الجِراح. الصَّمت قُوَّة.

ما هو المُضاد الحيوي" Antibiotic" الذي تتناوله لمواجهة هذا التحوّل التراجيدي في المعايير الفنيّة؟ وهل من سبيل، برأيك، للإطاحة بهذا النظام الذي يتفّه المجتمع ويكافئ الرّداءة؟

مُضادي الحيويّ هو التأمُّل... والصَّلاة.

عذراً، "نسيت" أن أسألك عن رأيك بخلاف الممثلة فلانة مع زميلتها، وعن الفارق بين أَجرِك وأَجر زميلك، كما أننا لم نتطرّق إلى الهاشتاغات والجوائز المفروشة سلفاً للإيجار، فأنا صحافية سقطت من عصرٍ آخر وتعيش خارج إطار زمنها (وأحمد الله على هذه النعمة!). كيف تجيب عن أسئلة الصحافيين الذين يتناولون هذه المسائل "الدّسمة" و"العميقة"؟

أنتِ "نسيتِ" السؤال، وأنا بِدَوري أتمنى النِّسيان. حين أشاهد هذه الأقدار والحالات المُفلِسَة، أحاول أن "أنسى". أمّا بالنسبة للشِق الثاني مِن السؤال فأقول: عن أي جواب نبحث؟ لقد ضاع الزّمن وأضاع معه السؤال. أنا بحاجة لزمنٍ  يُشبه التائبين: يسألون فقط...