بقلم صبحي منذر ياغي
شاهدته بنفسي، إنه <أبو الريش> الضابط الاسرائيلي. <كان يسير بشكل عادي في شارع الحمراء..> هذا ما كانت سيدة لبنانية قد قالته في شهر تموز/ يوليو من عام 2005 خلال إدلائها بإفادتها في مخفر حبيش، و«أبو الريش»الذي اختفى وسط الزحام له قصة طويلة في عالم التجسس الاسرائيلي في بيروت.....وفي هذا التحقيق، نسلط الضوء على النشاط الاستخباراتي العربي والدولي الذي كانت بيروت تشهده في الماضي وما زالت في وقت يعتبر البعض ان جواسيس الامس كانوا بمنزلة جواسيس الماضي الجميل، هذا كان الحال في نهاية الستينات. فماذا عن الواقع اليوم في ضوء الماضي الزاهر؟ وهل ما زال لبنان المدى الأرحب والأفضل لأجهزة الاستخبارات في العالم؟
عام 1968 كتبت مجلة <نيوزويك> الأميركية ان بيروت هي العاصمة التي لا تنافسها عاصمة أخرى في الشرق الاوسط من حيث وفرة عدد الجواسيس الموجودين فيها ونشاطاتهم. وفي كتابه <المخابرات تحرّك العالم>، يسرد الكاتب سعيد الجزائري رواية على سبيل الطرفة لكنها تعكس واقعاً ملموساً عن اعتبار بيروت من أكثر العواصم التي تشهد أنشطة لجواسيس العالم، وتحوي منذ زمن بعيد محطات مهمة مركزية لعدد من الاستخبارات الغربية والعربية، يقول: <..ان جاسوساً غربياً تلقى ذات يوم أمراً من رئاسته بالمجيء الى بيروت بمهمة ما. وقيل له: <تذهب الى المنطقة الفلانية، الشارع الفلاني، البناية الفلانية، وفيها يقيم زميل لك (عميل) يدعى فلان... تقول له (كلمة السر) فيتم التعاون بينكما ويقول لك ما يتوجب عليك عمله>. وصل الجاسوس الجديد الى بيروت واهتدى الى العنوان وهو البناية التي يقيم فيها العميل المطلوب، لكنه فوجئ عند مدخل البناية وهو يقرأ أسماء المقيمين فيها على اللوحات النحاسية بوجود شخصين يحملان الاسم نفسه المعطى له من قيادته وحار في الأمر، إذ كيف يعرف مَن هو زميله المرسل اليه منهما؟ وأخيراً لم يكن أمامه سوى ان يعتمد على الحظ، فطرق باب احدهما، وقال له (كلمة السر) لعله يكون هو الشخص المطلوب، وتنتهي المشكلة، وقد قرع أحد الابواب وما ان فتح له الساكن حتى ذكر له عبارة التعارف، ولم يفهم هذا الأخير بالطبع. فكرر الجاسوس العبارة. عند ذلك فهم الرجل القصد، وقال مبتسماً: <هــــا هـــــا انـــــك تريـــــد الجاسوس، انـــه فوق في الطابق التــــالي فوق منـــزلي بالضبط>.
<السان جورج> ملتقى الجواسيس
وتشير أوساط الى ان فندق <السان جورج> كان في المراحل الماضية، وخصوصاً في الخمسينات، المكان الذي يتردد اليه عدد من الصحافيين والجواسيس والسياسيين، إضافة الى رجال الاعمال والفنانين... وكان مقهى <السان جورج> العنوان الدائم لكبار الصحافيين من محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة <الاهرام>، الى سليم اللوزي صاحب مجلة <الحوادث>، وعفيف الطيبي رئيس تحرير جريدة <اليوم>، وحنا غصن رئيس تحرير جريدة <الديار>... وإضافة الى هؤلاء كان عدد من الصحافيين الذين عملوا في الوقت نفسه كأبرز عملاء للاستخبارات الغربية والاقليمية. فمراسل مجلة <الايكونوميست> البريطانية <كيم فيلبي> كان من أبرز عملاء الاستخبارات البريطانية والسوفياتية في الوقت نفسه، ومراسل صحيفة <كونتيننتالي> والمصري خيري حماد كان من أبرز عملاء الاستخبارات المصرية، وقد عمل على نسج علاقات واسعة مع عدد كبير من السياسيين اللبنانيين، ومع ضباط أمنيين في المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية. وكان حماد يستغل حماسة الشباب اللبناني للرئيس جمال عبد الناصر وللعروبة لتجنيدهم لخدمته ولإنجاح مهمته. وتوصل حماد الى التعاون مع سائقي التاكسي ونواطير البنايات، والبائعين المتجولين. وقد لفت خيري حماد أنظار الاستخبارات الأميركية التي حاولت استمالته وإغراءه للعمل معها، إلا ان محاولاتها باءت بالفشل، وكان لهذا الرجل عدة مقالات في مجلة <الحوادث>. ويؤكد ط. حملايا (وهو ضابط متقاعد في المكتب الثاني عمل في الاستخبارات اللبنانية لفترة طويلة وعايش تلك الحقبة) أن معظم التحضيرات للانقلابات التي كانت تحصل في الدول العربية وخصوصاً في سوريا كانت تجري في عدد من مقاهي بيروت وفي صالات فنادقها، اذ كانت بيروت المكان والمنفى والمأوى للهاربين من ظلم الأنظمة العربية وديكتاتورية زعمائها وملوكها.
ويسرد الصحافي سعيد <أبو الريش> 1989 عن جواسيس <السان جورج> وعن الانشطة الأمنية الأميركية والاجنبية في بيروت قصصاً، وعن مؤسسات أميركية تتخذ طابع العمل الإنمائي والثقافي، وكانت في الواقع تهدف الى جمع المعلومات وتحسين صورة الولايات المتحدة الأميركية في نظر العرب. من هذه المؤسسات والجمعيات جمعية <أصدقاء الشرق الاوسط الأميركيين> التي تولى إدارتها <هوتشيسون> مع نائبه <تشارلز هولاك>، وكانا من أبرز رواد <السان جورج>، وكانا ينظمان رحلات ترفيهية سياحية الى الولايات المتحدة الأميركية. وفي حديث خاص، أكد <ج. ش> وهو من الشخصيات اللبنانية التي لعبت دوراً مهماً مع المكتب الثاني اللبناني في الستينات والسبعينات <..ان الكثير من المؤسسات الانسانية الغربية التي نشطت في بيروت كانت تعمل لمصلحة أجهزة استخباراتية في وطنها الأم، وان المكتب الثاني اكتشف ارتباط عدد من مراسلي الوكالات الاجنبية في بيروت بأجهزة استخبارات غربية وحتى اسرائيلية، وان الاستخبارات اللبنانية كانت ترصد تحركاتهم واتصالاتهم حتى ان بعض المراسلين الفرنسيين كان برتبة رائد في جهاز الاستخبارات الفرنسية وكان لديه عدد كبير من المتعاونين معه من اللبنانيين، وان الاستخبارات الاسرائيلية ركزت بشكل خاص على التعاون مع الفلسطينيين في لبنان في السبعينات الذين كانوا يكلفون بمهمات صعبة، من بينها اغتيال شخصيات قيادية في المنظمات الفلسطينية. والذي ساعد الاستخبارات الاسرائيلية على التغلغل في عمق المجتمع اللبناني زرعها عناصر يهودية من أصول عربية وفلسطينية بصورة خاصة لا يمكن كشفها، كقصة العامل الفلسطيني (وليد) العامل لدى محطة محروقات في بيروت عند منطقة الطريق الجديدة عام 1980 الذي تبين وخلال الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 انه يهودي من مواليد عكا وقد شارك في المداهمات التي قامت بها القوات الاسرائيلية للمراكز الفلسطينية، في منطقة الجامعة العربية، وحي الفاكهاني وسط ذهول الجميع واستغرابهم، وكان <وليد> يعرف أماكن مستودعات السلاح والذخيرة>.
اما <أبو الريش> الذي شاهدته السيدة اللبنانية في شارع الحمراء عام 2005 فهو كان مقيماً في بيروت في الثمانينات وتحديداً في كوخ خشبي في شارع السادات. وفي هذا الصدد، يؤكد الزميل محمد سلام في دردشة مع <الافكار> ان <أبو الريش> كان يتظاهر بالجنون والغباء والبساطة والدروشة، يعتمر قبعة عليها ريشة كانت السبب في تسميته بهذا اللقب، وكان يستعطي المارة ويقوم بنقل الأغراض لسكان البنايات. كان <أبو الريش> موجوداً في منطقة الروشة حتى كورنيش المنارة وكانت علاقته وطيدة مع كل زوار الكورنيش من المتنزهين الى الرياضيين الى الباعة وسائقي التاكسي. وأثناء دخول القوات الاسرائيلية الى بيروت في اجتياح العام 1982، وبعد حصول مجزرتي صبرا وشاتيلا، ظهر <أبو الريش> فجأة بلباس عسكري على حاجز للقوات الاسرائيلية في منطقة بئر حسن، ليتبين ان هذا الشحاذ المخبول هو من ضباط <الموساد> الاسرائيلي، وكان يعرف كل كوادر الاحزاب اليسارية اللبنانية، والمنظمات الفلسطينية. كان <أبو الريش> المسؤول عن رصد القوات السورية التي كانت متمركزة في ملعب <النهضة>، وهو الذي أمّن قصف هذه القوات من المروحيات الاسرائيلية من فوق البحر في اللحظات الاولى لبدء الهجوم الاسرائيلي عام 1982 عبر إشارات لاسلكية كان يبثها للمروحيات، وقد تم تدمير المركز السوري بأكمله.
شراء الاسرار
يقول <رونالد بيرند> مراسل صحيفة <الدايلي اكسبرس>: <..ان من أسهل الأمور في بيروت شراء الأسرار الشرقية والغربية على السواء، بملايين الليرات التي تصب في فنادق العاصمة وأبنيتها الأنيقة وحياة الليل الذي لا ينتهي، والشمس المشرقة أبداً على الشواطىء والفتيات الرائعات الجمال الآتيات من مختلف أنحاء اوروبا واللواتي ينتشرن في كل البارات والملاهي... كل ذلك يجعل من بيروت مكاناً للتجسس. لا شك في ان هذا الأمر يسهّل على الديبلوماسيين إخفاء هوياتهم الحقيقية والتقاط المعلومات التي تعتبر المورد الرئيسي لحياة الجاسوس>. وقال مظهر عيسى ديبلوماسي عربي سبق وان كان في بيروت في دردشة خاصة مع <الأفكار> انه <تابع في إحدى المرات قضية سياسية مهمة في بلد عربي، والتقى لهذا السبب شخصيات سياسية في عاصمة هذا البلد، عله يصل من خلالها الى غايته، لكنه أخفق في ذلك. ثم أتى من أسرّ له: <إذا أردت ان تعرف سر ما جئت من أجله، فاذهب الى بيروت.. وهكذا كان>. وهكذا فإن الديبلوماسي العربي أراد ان يؤكد ان أسرار العالم العربي السياسية والأمنية تُعرف من بيروت، تلك المدينة العجيبة المذهلة كما وصفها الديبلوماسي. وحسب الكاتب سعيد الجزائري، فإن بيروت هي حلم كل جاسوس أجنبي، ليس فقط لمعرفة أسرارها كعاصمة لبنانية، بل ايضاً وفي المقام الاول، لمعرفة أسرار العواصم العربية الأخرى. وفي بيروت، لمعت أسماء كبيرة لجواسيس من مختلف الجنسيات من <شولا كوهين> الى أمينة المفتي، وصولاً الى أحمد الحلاق.... وعملاء جرى مؤخراً القبض عليهم في إطار كشف عدد كبير من الشبكات الاسرائيلية.المخابرات الأميركية : حصة الأسد
واليوم عادت أجهزة الاستخبارات العالمية ومن بينها أجهزة استخبارات عربية الى ممارسة نشاطاتها في لبنان، وتتخذ من بيروت منطلقاً لتحركاتها ومنها الاستخبارات الفرنسية التي تنشط عبر جهاز الأمن الخارجي التابع لوزارة الدفاع(D.S.T) والاستخبارات الالمانية والبريطانية والروسية. ولا شك في ان للاستخبارات الأميركية حصة الأسد في النشاطات الأمنية في لبنان خصوصاً ومنطقة الشرق الاوسط عموماً من خلال تشعباتها وعلاقاتها ومؤسساتها الانمائية ومن خلال وحدة استخبارية جديدة تسمى(S.S.B) ، إضافة الى جهاز الـ(سي. آي. إي). والنشاط الامني الأميركي في لبنان قديم العهد، ولم يتوقف حتى في الحوادث، وان زال الوجود الديبلوماسي الأميركي من بيروت لفترة طويلة. وذكر مسؤول أمني سابق في حزب لبناني يدعى (م.ج) <انه أثناء الحوادث اللبنانية، اكتشفنا ان المسؤول الأمني في حزبنا كان على اتصال بضابط في السفارة الأميركية في قبرص، وان أحد رجال الدين كان من مسؤولي مجموعة أمنية تعمل لمصلحة السفارة الأميركية...>. واللافت ان شخصيات سياسية لبنانية كانت على علاقة وثيقة مع الأميركيين، اضافة الى علاقات لفنانين وصحافيين كبار في لبنان. وفي رأي شخصية أمنية لبنانية سابقة <ان بيروت باتت ومنذ زمن طويل مدينة مباحة لكل الانشطة الأمنية. فالعاصمة الصغيرة الحجم المفتوحة الابواب، تعرف أكثر مما ينبغي ان تعرفه أية عاصمة في حجمها>. وعودة النشاط الأمني الى لبنان من الباب العريض أثبتته سلسلة الاغتيالات التي شهدها لبنان منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري حتى اليوم ..
تعزيز الأجهزة الأمنية
فالمطلوب تعزيز الأجهزة الأمنية وتحسين أدائها، والعمل على تعزيز السقف الأمني وتحقيق الاستقرار السياسي، منعاً لاستغلال الوضع الأمني المتردي. فمن غير المسموح أن يظل لبنان بلداً سائباً، <تعربد> فيه الأجهزة الأمنية المخابراتية الأجنبية والعربية، وعلى الأجهزة الأمنية اللبنانية أن تكون جسماً واحداً متراصاً بوجه كل أعداء الوطن والساعين الى استهداف حريته وسيادته واستقلاله وأمنه الداخلي.