في 18 كانون الثاني/ يناير 2016 كان الطقس بارداً جداً في بلدة معراب حيث مقر قيادة القوات اللبنانية، لكن هذا البرد القارس لم يمنع رئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون من التوجه الى البلدة الرابضة في فتوح كسروان ويعلن مع رئيس القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع ما عُرف بـ<تفاهم معراب> في اثر اللقاء التاريخي بين الزعيمين المارونيين، وذلك بعد مخاض طويل استغرق قرابة العام وسبقه يومئذٍ <إعلان النوايا> من الرابية مقر إقامة <الجنرال> آنذاك.
يومئذٍ التقى الرجلان على القول بأن <حرارة> الاتفاق واكتمال المصالحة بين <التيار> و<القوات> أنسى الحاضرين برودة الطقس والصقيع الذي شعر به كل من شارك في المناسبة...
اليوم، في 18 كانون الثاني/ يناير 2019، وبعد ثلاثة أعوام بالتمام والكمال على تحقيق هذا الإنجاز بين الحزبين المسيحيين (والمارونيين تحديداً) الكبيرين، التاريخ يعيد نفسه... جغرافياً، فالطقس بارد جداً والثلج لامس تلال معراب، لكن تلك الحرارة التي سادت العلاقة بين الطرفين قبل ثلاثة أعوام، تحوّلت اليوم الى برودة شديدة و<صقيع> جمّد كل حركة تلاقٍ بين بعبدا حيث بات <الرئيس> ميشال عون مقيماً، وبين معراب حيث لا يزال <الحكيم> في مقره يتابع بصمت مريب ما حلّ بـ<تفاهم معراب> وبالعلاقة بينه وبين سيد العهد وخليفته في رئاسة التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل. وإذا كانت العلاقة بين الطرفين قد <صمدت> خلال العامين الأولين لـ<التفاهم>، فإنها <اهتزّت> في أواخر السنة الثانية لتنهار كلياً في السنة الثالثة ويصبح التباعد بين الحزبين المسيحيين القويين سمة المرحلة، فازدادت أعداد <الشامتين> وتحرّك المستفيدون من الخلاف <العوني - القواتي> يصبون الزيت على النار لأن لقاء الطرفين يشكّل مصدر إزعاج لكثيرين من الطامحين، ولاسيما في صفوف الموارنة الذين ينظرون الى بعبدا وعيونهم على كرسي الرئاسة ولو بعد حين.
تعدّدت الأسباب... والنتيجة واحدة!
ومع عودة الخلاف على أشده بين <التيار> و<القوات> الى البروز مجدداً في المشهد السياسي المسيحي خصوصاً والوطني عموماً، تكثر التساؤلات عن الأسباب التي أدت الى انهيار العلاقة بعد مرحلة من الهدنة أرساها التوصل الى <تفاهم> كانت له مفاعيله الإيجابية خلال تشكيل الحكومة الأولى في عهد الرئيس عون، ليصبح هذا <التفاهم> في مهب الريح في مرحلة تشكيل الحكومة الثانية على رغم أن <العقدة المسيحية> وجدت حلاً قبِلَ به <الحكيم> ولم يعارضه <الرئيس - الجنرال> ولا رئيس <التيار> الوزير باسيل، الذي لم يكن متحمساً في الأساس لـ<تفاهم معراب> وإن كان رضي به - ولو على مضض - لأنه كان مفتاح وصول عمه الرئيس الى قصر بعبدا.
كثيرة هي الأسباب التي جعلت العلاقة تتدهور بين <القوات> و<التيار> والرئيس عون، ولكل من الأطراف الثلاثة وجهة نظر متناقضة الى درجة يصعب على المراقب أن يستخلص العبر ليعطي حكماً موضوعياً. فالاستماع الى الدكتور جعجع ومعاونيه في مجلس قيادة حزب <القوات> يضع المستمع بانطباع خلاصته أن فريق <التيار> والرئيس هو من بدأ <المشكل> من خلال <انقلابه> على الاتفاق الذي وقعه الطرفان في العام 2016 خصوصاً لدى تشكيل الحكومة وتوزيع المقاعد بالأعداد والحصص. ولا يسقط <القواتيون> من حسابهم في خلال تعدادهم أسباب انهيار العلاقة، التمييز بين الرئيس عون <بيّ الكل> وهو <بيّ> <القوات> مثلما هو لـ<العونيين>، وبين الوزير باسيل الذي يحمّلونه تبعات ما حصل في العلاقة بين
الحزبين بعد مرور ثلاث سنوات على <أهم> تفاهم توصل إليه طرفان مسيحيان.
ويورد هؤلاء <القواتيون> أمثلة على ما حصل في العلاقة منذ ما قبل الانتخابات النيابية وخلالها وبعدها وصولاً الى مرحلة تشكيل الحكومة حيث سعى الوزير باسيل - حسب <القواتيين> - الى عدم تمكين <القوات> من نيل أكثرية نيابية من خلال الفوز بدوائر مسيحية في جبل لبنان والشمال، وصولاً الى مرحلة تشكيل الحكومة العتيدة التي تعطلت شهوراً - ولا تزال - والتي كرّست القطيعة بين الطرفين فلم يعد الدكتور جعجع يزور قصر بعبدا إلا إذا استدعاه الرئيس عون لأسباب مختلفة، وكذلك لم يزر الوزير باسيل معراب منذ أشهر. إلا أنه وبعد كل لقاء، مباشراً كان أو غير مباشر، تزداد حدة الخلاف، وما صمت جعجع في هذه الفترة إلا الـ<التفرج> على <سقوط جبران> كما يسميه جعجع نتيجة خلافات الوزير باسيل مع قيادات لبنانية عدة على تشكيل الحكومة. وهذا <الصمت> من طرف <الحكيم> يثير علامات استفهام كثيرة حول ما يرمي اليه جعجع من البقاء خارج الضوء في هذه المرحلة بالذات الى درجة أنه ترك الازمة الوزارية والاتصالات وغادر في الأسبوع الماضي مع زوجته السيدة ستريدا الى باريس للاستراحة من عناء العمل السياسي المضني. إلا أن <صمت> جعجع لا ينسحب على وزرائه ونوابه الذين يكملون - ولو بخفر - مسيرة التباعد مع <التيار> من خلال <أوركسترا> تصريحات ومواقف تهاجم باسيل بقوة، وتلامس الرئيس عون من دون أن تؤذيه مباشرة، لكنها تستهدفه بصورة غير مباشرة، ولا يتورع وزراء حزب <القوات> ونوابه عن الاشتراك في الحملات ضد الوزير باسيل وبعض وزراء <التيار> وأعطائهم نعوتاً مؤذية وبعضها غير واقعي وغير لائق!
<التيار>: تجاوز الاتفاق!
في المقابل يفتح أهل <التيار> النار على رئيس حزب <القوات> ويتهمونه بعرقلة مسيرة العهد بدليل ان أصوات الوزراء <القواتيين> كانت تصدح ضد كل مشروع أو اقتراح تقدم به نواب <التكتل>، ولاسيما موضوع الكهرباء واستجرارها براً أو من خلال البواخر التركية العائمة. إلا أنه قبل هذا وذاك لا ينسى <العونيون> ما فعلته القوات اللبنانية من جرائم واعتداءات، إضافة الى أن جعجع <فتح على حسابه> في مرحلة ما وأزاح من حوله الكثير من المعاونين الذين يرون أهمية العلاقة العونية - القواتية. ويتحدث أهل <التيار> عما حصل في الانتخابات النيابية ما ادى الى حرمان <تياريين> و<عونيين> وحلفاء لهم من مقاعد نيابية اضافية في وقت كان يفترض أن يتم التنسيق بين الحزبين استناداً الى ما جاء في <تفاهم معراب>، وإذ بـ<القوات> تستبق كل تشاور وتعلن مرشحيها في كل دائرة مستطاعة، وقد فاز معظم هؤلاء قاطعين الطريق على <التيار> أن يوسع إطار تمثيله. ولا ينكر <العونيون> أن لا <كيمياء> بين <الحكيم> والوزير باسيل، لا بل اكثر من ذلك النقد القاسي المتبادل هو لسان حال الرجلين في حق بعضهما البعض.
وإذا كان التوتر اشتد فصولاً على مستوى القمة، إلا أنه سرعان ما عاد وانتشر في صفوف المحازبين من كلا الطرفين، بعدما كانوا <نعموا> خلال عامين من <التفاهم> بعلاقات جيدة غابت خلالها <المناوشات> عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتعود من جديد وبقوة أكبر بحيث سيكون من الصعب حتماً <لجمها> لأنها تجاوزت في أحيان كثيرة الخطوط الحمر!
ويلتقي أكثر من محلل سياسي على القول بأن إمكانية عودة العلاقة بين الرئيس عون والوزير باسيل من جهة والدكتور سمير جعجع من جهة ثانية شبه معدومة، ولن تنفع محاولات البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في رأب الصدع مجدداً، خصوصاً أن <القوات> التي خسرت القاعدة العونية بعد فقدانها للقمة أيضاً، تحاول اليوم تعويض خسارتها بالانفتاح على تيار <المردة> ورئيسه الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية ونجله النائب طوني خصوصاً بعد المصالحة التاريخية بين <الحكيم> و<أبو طوني> في بكركي برعاية بطريركية لافتة. ويلاحظ المراقبون <التناغم> في المواقف بين نواب <المردة> في مجلس النواب وزملائهم في <القوات>، خصوصاً في اطلاق النار السياسي المستدام على الوزير باسيل وانتقاد ادائه السياسي والوزاري على حد سواء. ولا يذهب المحللون بعيداً بحثاً عن أسباب تردي العلاقة بين <القوات> و<التيار> إذ يؤكدون أن سبباً واحداً يحول دون التلاقي من جديد هو معركة رئاسة الجمهورية التي بدأت باكراً بين باسيل وجعجع، حيث يتهم الأول الثاني بأن مواقفه <مشبوهة> تجاه العهد ورئيس <التيار>، ويرد الثاني بأن الأول (أي باسيل) يعمل لخلافة عمه في قصر بعبدا ويحاول احراق المراحل تحقيقاً لطموحاته الشخصية، ولو على حساب نجاح عهد <الرئيس القوي> الذي تجمعه بالوزير باسيل صلة قربى من جهة، وانتماء حزبي من جهة ثانية.
وفيما يرجح المحللون ارتفاع وتيرة الخلاف والتباعد بعد تشكيل الحكومة، وانتقال الصراع السياسي بين <التيار> و<القوات> الى داخل مجلس الوزراء بعد تشكيل الحكومة العتيدة، فإنهم يرون أن <تفاهم معراب> الذي سقط بكل مفاعيله السياسية، مرشح للسقوط أكثر فأكثر بأبعاده الشعبية في ما خص العلاقة بين القاعدتين <العونية> و<القواتية>، وعندئذٍ ستصبح الآمال بالتقاء الطرفين من جديد من المستحيلات، ولعل <صمت> جعجع حيال ما يجري مؤخراً ومنذ أن حلّت <العقدة المسيحية> خلال تشكيل الحكومة، خير دليل أن <الحكيم> يتحضر للانقضاض على رئيس الدولة ورئيس <التيار> عندما يرى ذلك مناسباً من خلال خيارات سياسية يلتقي فيها مسيحياً مع زعيم <المردة>، وسنياً مع الرئيس سعد الحريري، ودرزياً مع الزعيم وليد جنبلاط، وهو يحاول الاقتراب ايضاً من الرئيس نبيه بري <ليكتمل النقل بالزعرور>...
يوم أُعلن <تفاهم معراب> قال جعجع وأيده <الجنرال> عون - في حينه - ان عقارب الساعة لن تعود الى الوراء بين <القوات> و<التيار>... اليوم بعد ثلاث سنوات على <التفاهم> لم تتوقف عقارب ساعة المصالحة بين الطرفين فحسب، بل تحطمت كلياً وتطايرت شظاياها من معراب حتى... بعبدا!