مع حلول الخامس والعشرين من شهر آذار/ مارس الماضي، أطفأ الشغور في قصر بعبدا شمعته العاشرة ليبدأ الشهر الحادي عشر وسط معطيات لا تدل على ان الاستحقاق الرئاسي سيتم في موعد قريب، وان كل ما يتردد عن ان الانتخابات الرئاسية ستحصل في شهر أيار/ مايو المقبل مع الذكرى السنوية الأولى لانتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان هو خليط من شائعات وتمنيات... وما يعزز هذا الانطباع ما يسمعه السياسيون داخل لبنان وخارجه من معطيات تدفعهم الى الجزم بأن لا رئيس للجمهورية في المدى المنظور.
ولعل أبرز ما عكس هذا التوجه الأسبوع الماضي كان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي خرج من قصر <الإليزيه> في باريس متجهم الوجه بعد ساعة من اللقاء مع الرئيس الفرنسي <فرنسوا هولاند>، وأطلق تصريحاً عمّم فيه التشاؤم على الوسط السياسي اللبناني، لاسيما بعد قوله ان كل التطورات في المنطقة مأساوية وتبعث على التشاؤم لأن لا انفراج قريباً في المنطقة.
وما لم يقله النائب جنبلاط بوضوح أفرزته الساعات القليلة التي تلت عودته الى بيروت مع اندلاع المواجهات الدامية في اليمن ودخول السعودية ودول الخليح (ما عدا سلطنة عُمان) ومعها دول عربية أخرى في حرب ضد الحوثيين لدعم الشرعية اليمنية التي يمثلها الرئيس عبد منصور هادي، وهذا التطور أضيف الى سلسلة تطورات تجعل الاهتمام الإقليمي والدولي يتجه صوب الدول المضطربة وآخرها اليمن، ما يعني ان <الرعاية> الدولية للبنان مقتصرة راهناً على حماية الاستقرار الأمني ودعم مؤسسة الجيش وسواها من المؤسسات الأمنية لمنع تمدّد الإرهابيين صوب المناطق اللبنانية من الثغرات الحدودية، إضافة الى ان كل الرسائل الآتية من الخارج بما فيها رسائل الكرسي الرسولي لا توحي بأن الملف الرئاسي اللبناني موضوع على سلم الأولويات في الظرف الراهن.
صحيح ان المواقف المعلنة في الأمم المتحدة وفي غيرها من دول القرار تحث على إجراء الانتخابات الرئاسية <في أسرع وقت ممكن>، إلا ان الصحيح ايضاً انها لا تقترن بأي خطوة عملية تخرج الاستحقاق الرئاسي من عنق الزجاجة التي بات فيها منذ عشرة أشهر...
موقف باريس وتحرّك <ايخهورست>
وفي هذا السياق، كشفت مصادر ديبلوماسية لـ<الأفكار> ان باريس التي كانت قد تحركت قبل مدة لإعادة فتح الملف الرئاسي أبلغت من يعنيهم الأمر الأسبوع الماضي ألا ينتظروا شيئاً ملموساً في المدى القريب. وقد سمع هذا الكلام مباشرة أحد أبرز المرشحين <المدنيين> المطروحين كخيار ثالث خلال وجوده في العاصمة الفرنسية، وتكرّر الأمر نفسه مع مرشح آخر <غير مدني> زار باريس لأسباب غير متصلة مباشرة بالاستحقاق الرئاسي، لكن <ملائكة> هذا الاستحقاق كانت حاضرة خلال المداولات التي تمت مع مسؤولين فرنسيين وغير فرنسيين <صودف> وجودهم في العاصمة الفرنسية في التوقيت نفسه.
أكثر من ذلك، تضيف المصادر الديبلوماسية، فإن التحرك الذي قادته سفيرة الاتحاد الأوروبي في لبنان <انجلينا ايخهوريست> واللقاءات التي عقدتها على مدى أسبوع كامل مع قيادات سياسية لبنانية معنية مباشرة بالاستحقاق الرئاسي أظهرت على نحو لا يقبل الشك بقاء المواقف في <المربع> نفسه وعدم حصول أي تطور يمكن أن يفضي الى تحريك الملف الرئاسي. وفي المعلومات المتوافرة لدى <الأفكار> ان السفيرة <ايخهورست> سألت عدداً من الشخصيات المارونية المعنية بالاستحقاق عما إذا كانت فرصة <لبننة> الانتخابات الرئاسية لا تزال ممكنة من خلال <تعديل> في المواقف المعلنة، فلم تتلقَ أجوبة <مشجعة>، لا بل خرجت بانطباعات خلاصتها ان لا مجال في الوقت الحاضر لأي خرق داخلي، لاسيما وان <موسم الحوارات> القائمة أو تلك التي يتم التحضير لها لم يحن موعد قطاف ثماره بعد، وقد لا يكون هذا الموعد قريباً.
وبناء عليه، سافرت <ايخهورست> في إجازة الى الخارج ومعها <خيبة أمل> أبلغتها لعدد من الذين تواصلت معهم بعد <لقاءات جس النبض> التي أجرتها على مدى أسبوع كامل مع وعد بمتابعة الجهد الذي قامت به بعدما تأكد انها كانت <مكلفة بمهمة> التواصل مع القيادات المسيحية من مرجعيتها في الاتحاد الأوروبي، لمعرفة مدى قبول القيادات المارونية تحديداً - منفردة ومجتمعة - بتقديم <تنازلات> معينة تصب في مصلحة إسقاط الشغور في قصر بعبدا.
وروى قيادي من الذين زارتهم السفيرة الأوروبية لـ<الأفكار> بعض ما دار بينه وبينها من حوار، فقال إن المجموعة الغربية التي تتحرك ضمن أروقة الأمم المتحدة في نيويورك طلبت من السفيرة <ايخهورست> زيارة القيادات المسيحية الأساسية وطرح موضوع الاستحقاق الرئاسي معهم، إلا انها كانت <متشددة> في مقاربتها الى حد استعملت فيه عبارات تتجاوز الإطار الديبلوماسي وما عُرفت به من دماثة وصفاء تفكير، لاسيما وانها تدرجت في الحديث من <عرض الواقع المؤلم على المسيحيين> الى تقديم النصائح بضرورة <الانتخاب السريع>، وصولاً الى دعوتها بقوة الى <انتخاب الرئيس فوراً، لأن المهم أن تنتخبوا لأنه بعد وقت معين سيصبح الأمر متعثراً>. وأضافت ان ثمة تحضيرات في نيويورك وغيرها لإحداث <أمر واقع> يفقد فيه اللبنانيون القدرة على الاختيار أو التفضيل، وان جهات عدة ستتحرك في الداخل اللبناني لسحب المبادرة من أيدي بعض الأطراف. ويضيف القيادي نفسه ان <ايخهورست> <أودعت> مضيفيها <مواصفات رئاسية> معينة من دون أن تتطرق الى أي اسم محدد...
غير ان السعي الدولي لتحريك الملف الرئاسي لن يتوقف وإن بدا انه <حركة بلا بركة>، وثمة معلومات وصلت الى بيروت عن اتصالات تنوي موسكو القيام بها بمبادرة من نائب وزير الخارجية الروسي <ميخائيل بوغدانوف> الذي طلب الى السفير الروسي في لبنان <الكسندر زاسبكين> الاتصال بقيادات سياسية محددة، والطلب إليها التواصل مع المسؤول الروسي بعد عطلة عيد الفصح لدى الطوائف الأرثوذكسية لاستكشاف ما إذا كان التحرك الروسي رئاسياً يمكن أن يلقى صدى إيجابياً أم انه سيكون تحركاً في فراغ. وعليه، باشر السفير <زاسبكين> اتصالات أبقاها بعيدة عن الأضواء تنفيذاً لطلب <بوغدانوف>، في وقت اعتبرت فيه مراجع سياسية ان نقل السفير الأميركي <دايفيد هيل> من بيروت أدى الى انكفاء أميركي عن التعاطي مع الملف الرئاسي.
موقف نصر الله ورد الحريري
في غضون ذلك، ظلت المواقف المحلية حيال الاستحقاق الرئاسي على حالها ولم تسجل أي خطوة إيجابية في هذا المجال، في وقت أبدت فيه مراجع سياسية معنية مخاوف من ان تؤدي ردود الفعل المتضاربة بعد التطورات المتسارعة في اليمن الى عودة التشنج في المواقف، لاسيما بين حزب الله خصوصاً و8 آذار عموماً من جهة، وتيار <المستقبل> و14 آذار من جهة أخرى، الى إضافة عناصر سلبية على العناصر المتراكمة والتي جمدت أي حركة في الاستحقاق الرئاسي، خصوصاً بعد المواقف التي أعلنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والتي اتهم فيها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بالاسم بوضع <فيتو> على ترشيح العماد ميشال عون وممارسة الوزير الفيصل ضغوطاً على الرئيس سعد الحريري لعدم التفاعل إيجاباً مع ترشيح <الجنرال>. إضافة الى ما اعلنه السيد نصر الله حيال الوضع في اليمن ودور السعودية بعد اطلاقها عملية <عاصفة الحزم>، وهو ما استتبع ردة فعل عنيفة من الرئيس الحريري مهدت لسلسلة مواقف سلبية ضد الحزب وإيران رددتها أصوات <مستقبلية> داخل الحكومة ومجلس النواب وخارجهما.
وترى المراجع السياسية نفسها أن حرب اليمن ستترك تداعيات على مسار العلاقة بين حزب الله و<المستقبل> بدأت ملامحها واضحة من خلال عودة الانتقادات العلنية المتبادلة في الإعلام وفي المناسبات السياسية المتتالية، وثمة خشية حقيقية من ان <تعوكر> هذه التداعيات السلبية صفاء طاولة الحوار بين الطرفين في عين التينة، رغم التأكيدات المتبادلة بأن ما قيل وسيقال بعد خطاب السيد نصر الله ورد الحريري ومتفرعاته غير مرتبط بالحوار القائم الذي يستمر بوتيرة عادية بل يندرج ضمن عنوان <ربط النزاع> بين الحزب و<المستقبل> الذي يلتزم الفريقان سقفاً لا يتم تجاوزه حفاظاً على <المكتسبات> التي تحققت في الجولات الحوارية السابقة التي أكد الرئيس نبيه بري أنها <ضرورية> ويجب المحافظة عليها، إلا ان هذا <السقف> لا يشمل الملف الرئاسي الذي يبدو انه <مسكر> من كل الجهات وأتت <عاصفة الحزم> لتزيد الطين بلّة!
عون <صامد> في وجه الممانعة السعودية
وفي اعتقاد المراجع السياسية نفسها ان الموقف السعودي من ترشيح العماد عون سيزداد تصلباً طالما ان التحالف بينه وبين حزب الله <صامد> على رغم الإشارات السعودية المباشرة وغير المباشرة بأن الرياض تعارض انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية بسبب حلفه مع حزب الله ودفاعه عن خيارات <الحزب> في الداخل اللبناني والحرب السورية وامتدادها في العراق. ويلاحظ زوار الرابية في هذا السياق ان العماد عون تفادى التزام موقف حزب الله حيال التدخل السعودي في اليمن، كما انه لم يؤيد ردة الفعل السعودية، وهو تريث في اتخاذ مواقف حاسمة مع هذا التوجه أو ذاك، تاركاً لمعاونه السياسي وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل ان يضع بصماته على موقف الحكومة اللبنانية <المتوازن> والذي بدا مزيجاً بين <الحزم> في دعم المملكة العربية السعودية في مبادرتها العسكرية، و<المرونة> في تحييد لبنان عن الصراع الإقليمي بما يجنّب الساحة الداخلية أي تداعيات للموقف اللبناني الداعم للموقف العربي الموحد انطلاقاً من الموقف اللبناني الثابت في التزام الإجماع العربي من دون إغفال أهمية <النأي بالنفس> عن الصراعات الإقليمية التي قد تكون لها انعكاسات سلبية على الوضع اللبناني.
وينقل زوار الرابية عن العماد عون اعتقاده ان <حرب اليمن> ستؤخر حتماً إنجاز الاستحقاق الرئاسي، ما يعني تمدد الفراغ في قصر بعبدا شهوراً إضافية، مع غياب أي أمل بانتخاب الرئيس العتيد في المدى المنظور، لذلك فإن اهتمام عون ينصب حالياً على معالجة موضوع مواجهة تأجيل تسريح كبار الضباط، وهو يعطيه الأولوية من دون أن يعني ذلك خروجاً من ساحة الرئاسة المستمر فيها حتى إشعار آخر... وعليه لا تتوقع مصادر متابعة ان تكون لدعوة القمة الروحية التي انعقدت في بكركي بداية الأسبوع الى انتخاب الرئيس العتيد اية مفاعيل عملية، بل سيضاف بيانها الى سلسلة بيانات سابقة مماثلة تبقى... للتاريخ!