لم يكن مفاجئاً القرار الذي اتخذته وزارة الخزانة الأميركية بفرض عقوبات على رئيس " التيار الوطني الحر" الوزير السابق النائب جبران باسيل استناداً الى قانون "ماغنتسكي" فكان اول سياسي لبناني يعاقب باسم هذا القانون. وسبب عدم المفاجأة يعود الى كون النائب باسيل "في جو" صدور مثل هذا القرار الذي احيط علماً باتخاذه منذ اشهر عدة خلال "المفاوضات" التي أجريت معه والتي كانت تحمل "تهديدات" مبطنة.... الا ان المفاجأة كانت في امرين، الأول توقيت الإعلان عن العقوبات في عز مجريات الانتخابات الرئاسية الأميركية والصراع المكشوف الذي نشأ بين الرئيس المنتخب "جو بايدن" والرئيس المنتهية ولايته "دونالد ترامب "، اذ وجد المعنيون بهذا الملف الوقت اللازم لاصدار العقوبات ضد باسيل وحده علماً ان المعلومات تحدثت عن وجود نحو 23 شخصية لبنانية على اللائحة الأميركية. اما الامر الثاني المفاجئ فقد كان توجيه تهمة الفساد لباسيل وتحميله مسؤولية كبيرة في هذا المجال واستعمال عبارات غير مألوفة في الأسلوب الأميركي المعتمد لدى فرض العقوبات والتي كان آخرها على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس المتهمين بإقامة علاقات مع حزب الله وتسهيل مدّ الحزب بالتمويل، حيث اتى هذا القرار بحق خليل وفنيانوس استنــــادا الى " قانون قيصر" . صحيح ان خلفية العقوبات بحق باسيل مرتبطة بعلاقته بحزب الله، لكن القرار الأميركي لم يشر الى تلك العلاقة لا من قريب ولا من بعيد خصوصاً انه استند الى "قانون ماغنيتسكي" الذي يستهدف محاربة الفساد والانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان في جميع انحاء العالم، واختار وزير الخزانة الأميركية "ستيفن مفوتشين" عبارات منها "ان الفساد الممنهج في النظام السياسي اللبناني المتمثل في باسيل ساعد على تآكل أسس حكومة فعالة تخدم الشعب اللبناني"، وقال: "هذا التصنيف يوضح كذلك ان الولايات المتحدة تدعم الشعب اللبناني في دعواته المستمرة للإصلاح والمساءلة". وأشار الى "ان لبنان لطالما عانى من الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية من قبل سماسرة السلطة الذين يروجون لمصالحهم الخاصة على حساب الشعب اللبناني الذي من المفترض ان يمثلوه".
[caption id="attachment_82822" align="alignleft" width="375"] الرئيس المكلف سعد الحريري.. وضرورة التوافق مع الرئيس عون لتشكيل الحكومة.[/caption]وبعدما عدد البيان الأوضاع الاقتصادية التي يمر بها لبنان والتحركات الشعبية التي حصلت يورد سلسلة احداث وقعت ليصل في النهاية الى الحديث عن "المواقع الوزارية التي شغلها باسيل في الحكومة اللبنانية". حيث اتسم بمزاعم كبيرة بالفساد، وفي العام 2017 عزز باسيل قاعدته السياسية بتعيين أصدقاء في مناصب وشراء اشكال أخرى من النفوذ داخل الأوساط السياسية اللبنانية. وفي العام 2014 عندما كان وزيراً للطاقة شارك باسيل في الموافقة على عدة مشاريع من شأنها توجيه أموال الحكومة اللبنانية الى افراد مقربين منه، من خلال مجموعة من الشركات الواجهة". وأضاف : " تم تصنيف باسيل لكونه مسؤولاً حكومياً حالياً او سابقاً، او شخصاً يعمل لمصلحة او نيابة عن هذا المسؤول، وهو مسؤول او متواطىء في او تورط بشكل مباشر او غير مباشر في الفساد، بما في ذلك اختلاس أصول الدولة، ومصادرة الأصول الخاصة لتحقيق مكاسب شخصية، او الفساد المتعلق بالعقود الحكومية او استخراج الموارد الطبيعية او الرشوة".
الا ان بيان وزير الخزانة الأميركية الذي اسهب في اطلاق الاتهامات، لم يقرن هذا الكلام بأي مستند يثبت تورط باسيل بالفساد او يحدد مسؤوليته في عمليات مالية مشبوهة في الوزارات التي تسلمها خلال وجوده في السلطة بعد عودة الرئيس عون من المنفى الباريسي ومشاركته في حكومات منذ العام 2008، ولعل هذه "الثغرة" في البيان الأميركي هي التي دفعت الرئيس عون في تعليق على الحدث، الى الطلب من وزير الخارجية شربل وهبه الاتصال بالسفارة الأميركية في بيروت والسفارة اللبنانية في واشنطن والاطلاع على ما توافر لديهما من معلومات حول الاتهامات التي وجهت الى باسيل والمستندات التي تثبت صحتها وايداعها القضاء اللبناني لاجراء المحاكمات اللازمة في حال ثبوت صحتها.... وكلف باسيل مكتب محاماة في الولايات المتحدة متابعة قرار ادراج اسمه على لائحة العقوبات وسوف يرفع دعوى قضائية لدى المحكمة الفيديرالية....
الفساد.... شماعة
[caption id="attachment_82824" align="alignleft" width="444"] النائب جبران باسيل المستهدف بالعقوبات الاميركية.[/caption]وبصرف النظر عن ردود الفعل التي دانت القرار الأميركي، وكانت كثيرة، واثنت عليه وكانت محدودة، فان ثمة اجماع ان موضوع الفساد لم يكن سوى "شماعة " تخفي السبب الحقيقي وهو العلاقة التي تجمع وتياره السياسي مع حزب الله، قيادة ومسؤولين، وهذا ما اكد ان قرار العقوبات ليس ابن ساعته اذ جيء على ذكر اشاراتها اكثر من مرة اقربها واخرها مع زيارة وكيل وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية "ديفيد هيل" لبيروت في 13 آب ( أغسطس) الماضي بعد انفجار المرفأ، واجتماعه الى المسؤولين وقائد الجيش العماد جوزف عون بمروحة واسعة من السياسيين ممن هم خارج السلطة حينذاك كالرئيس سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع وسامي الجميل وسليمان فرنجية وميشال معوض، وتعمده عدم الاجتماع بباسيل، ما اثار علامات استفهام حيال دلالة هذا الاستبعاد، وهو إشارة سلبية كاملة المواصفات قبلها كانت لـ"هيل" إشارة مماثلة مبطنة عندما اجتمع في 12 كانون الثاني ( يناير) 2019 ابان زيارته بيروت، بباسيل، ثم زاره ثانية نهاية السنة في 21 كانون الأول(ديسمبر) وتغدى الى مائدته في البياضة. يومذاك طلب منه الزائر الأميركي فك تحالفه مع حزب الله، من غير ان يتردد في تغليف الطلب بتهديد مضمر بقوله له في لقائهما طوال ساعتين انه "قد" يدفع ثمن هذا التحالف بادراجه في لائحة العقوبات.
في كل مرة اثير هذا التلويح في الأشهر الأخيرة، لا يلبث ان يتبدد في الداخل اللبناني لمجرد الربط ما بين باسيل ورئيس الجمهورية، من غير ان يخفي الاميركيون امام من يستقبلونهم في واشنطن ان ملف العقوبات مفتوح على مصراعيه من غير استثناء أي احد.
لقد كشف باسيل خلال اطلالته الإعلامية يوم الاحد الماضي الكثير من النقاط التي "فاوضه" فيها الجانب الأميركي لعدم فرض عقوبات عليه والتي تختصر بضرورة فك التحالف مع حزب الله، مشيرا الى ان الاميركيين الذين "فاوضوه" لم يشيروا الى موضوع الفساد الذي اتهم به في قرار العقوبات الأميركي. وركز على الثوابت التي يتمسك بها، داعيا الى ان تكون هذه العقوبات حافزا للإسراع في تشكيل الحكومة الجديدة وفق المعايير التي سبق ان حددها. الا ان المهم في كلمة باسيل ان وراء هذه الحملة ضده الاستهداف المباشر للوجود المسيحي في لبنان من خلال اضعاف هذا الوجود من خلال دفعه الى المواجهة مع الطائفة الشيعية التي ستكون ردة فعلها قاسية في حال التواطؤ على عزلها....
وفي خطوة غير مسبوقة ردت السفيرة الاميركية في بيروت "دوروثي شيا" على كلام باسيل فقالت انه اكد لها امكانية الانفصال عن حزب الله خلال فترة قصيرة وضمن شروط معينة، ولفتت الى ان الادارة الاميركية لا تفرض عقوبات من دون مستندات وان هذا الامر متروك للادارة في حال رغبت في تعميم هذه الاجراءات ام لا.
في أي حال من الواضح ان غايات عدة يهدف اليها القرار الأميركي من خلال استهداف باسيل الذي ليس هو اول حلفاء حزب الله، ولا هو اقدمهم واصلبهم لا تجمعه به ما تجمع فرنجية على الأقل لعقود مضت، ناهيك بعلاقة الزعيم الزغرتاوي وبنظام الرئيس بشار الأسد. الذي كان آخر الوافدين اليه بدءاً من دخوله السلطة عام 2008. ليس خافياً على الاميركيين ان اقرب الحلفاء اللبنانيين اليهم هم اباء الفساد وصانعوا ثقافته، احياء بعد راحلين.
ومن الواضح وجود محاولة اخراج باسيل من المعادلة السياسية بحرمانه توزيره لاحقاً. وليس فحسب حقيبة الخارجية او وضعها في يد احد ينتمي الى تياره. اضف مقاطعته سياسياً من السفيرة الأميركية في بيروت، كما من الزوار الاميركيين وايصاد آخر ما تبقى من طموحات الرئاسة المقبلة. ومن المفيد الإشارة الى ان هناك تعويل على تحول العقوبات سيفاً مصلتاً على رئيس الجمهورية لارغامه على تقديم تنازلات في تأليف الحكومة، وتالياً الانصياع الى شروط الحريري الذي يبدو الان اكثر المستفيدين من توقيت العقوبات بغية اخراج رئيس التيار الوطني من دور المفاوض غير المباشر في تأليف الحكومة.
تداعيات على الحكومة.... سلبية ام إيجابية؟
ويبقى السؤال عما اذا كانت العقوبات على باسيل ستؤثر على تشكيل الحكومة العتيدة سلباً ام إيجاباً. يقول المتابعون ان ثمة اتجاهين، الأول يتحدث عن تأثير سلبي، والثاني عن تأثير إيجابي. في السلبي يستذكر العارفون كيف ان فرض عقوبات أميركية على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، أطاح بالتركيبة التي كان يعمل بها الرئيس المكلف السفير مصطفى اديب الذي انتهى دوره بالاعتذار عن التشكيل وغادر الى برلين عائداً الى مركز عمله الديبلوماسي، ويضيفون ان السيناريو نفسه قد يتكرر – من خلال تصلب الرئيس عون في موقفه حيال ضرورة تمثيل التيار الوطني الحر في الحكومة العتيدة اسوة ببقية الأحزاب والكتل الكبيرة واعطائه حق اختيار تمثيله وهو ما يرفضه الرئيس الحريري الذي يريد استبعاد التمثيل الحزبي للوطني الحر في مقابل القبول بتمثيل الرئيس عون من خلال وزيرين مسيحيين او ثلاثة. فضلاً عن ان حزب الله الذي يعتبر انه كان السبب المباشر لانزال عقوبات على حليفه النائب باسيل سوف يتمسك بموقف مزدوج، الأول ضرورة تمثيله في الحكومة في حقيبة وازنة، وكذلك الامر تمثيل حليفه باسيل في حقائب يختار له وزراء من القريبين منه من دون ان يكونوا حزبيين، والامران يعترض عليهما الحريري الذي قد يلجأ الى التمسك برفضه تمثيل حزب الله من قريبين منه خوفاً من ردة الفعل الأميركية التي كانت واضحة لجهة المطالبة بعدم تمثيل الحزب في الحكومة. وهذا يعني عملياً جمود العمل لتشكيل الحكومة حتى اشعار آخر.
اما في التأثير الإيجابي، فثمة من يقول ان العقوبات لا يجوز ان تؤثر على مشروع تشكيل الحكومة خصوصاً ان النائب باسيل لم يكن أصلاً مشاركاً فيها بشكل مباشر بل عبر حصة رئيس الجمهورية، بل ستكون العقوبات حافزاً للإسراع في اعلان الحكومة العتيدة للتقليل من أهمية تأثير العقوبات على العمل الحكومي في البلاد من جهة، ولابقاء المبادرة الفرنسية حية خصوصاً ان ثمة من يعتبر ان الاميركيين الذين لم يظهروا "حماسة" لهذه المبادرة نجحوا من خلال توقيت اعلان العقوبات في التأثير سلباً على مسارها، الامر الذي يفترض بالمؤمنين بالمبادرة الفرنسية العمل لحمايتها من خلال تأمين نجاحها عبر ولادة الحكومة الجديدة، وفي ذلك يكون الرد المباشر على الاميركيين اذا كانوا أرادوا من عقوباتهم "نسف" المبادرة الفرنسية قبل ان تؤتي ثمارها....
وهكذا دخلت مسألة تشكيل الحكومة في دوامة من الانتظار الذي لن يبدده الا اتفاق الرئيسين عون والحريري على المخرج المناسب الذي يحمي التشكيلة الحكومية العتيدة من السقوط مرة جديدة في مستنقع يصعب الخروج منه، وبالتالي فان في مقدور الرئيسين عون والحريري ان أرادا تجاوز تداعيات العقوبات والشروع بتشكيل الحكومة شرط توافر إرادة عدم التعطيل لديهما، فالرئيس عون قادر على رفض صيغة يعرضها عليه الحريري من دون توافق مسبق معه على الأسماء والحقائب، والرئيس الحريري قادر بدوره على "الاعتكاف" في "بيت الوسط" وعدم الصعود الى بعبدا للاتفاق مع سيد القصر على حكومته الثالثة في عهد الرئيس عون، والرابعة في حياته السياسية. فاي خيار من الاثنين سيلجآ اليه كل من الرئيسين عون والحريري؟ هذه المرة التوافق بين الرجلين أساسي لا بل ضروري، وهو توافق يجب ان يكون طوعياً والا دخلت البلاد في فراغ حكومي معروف كيف يبدأ وغير معروف كيف ينتهي... علماً ان لا البداية مطلوبة ولا النهاية ممكنة!