بقلم طوني بشارة
خبير الأسواق المالية دان قزي: الليرة لن تستقر طالما التوازن غير قائم بين الموجود من دولارات وما يدخل إلى لبنان، وبين ما يخرج لاستيراد السلع والحاجات المختلفة
[caption id="attachment_82351" align="alignleft" width="516"] مصرف لبنان... ضرورة الحفاظ على احتياطي مصرف لبنان من الذهب وعدم المس به[/caption]أصدر مصرف لبنان مؤخراً تعاميم وقرارات مرتبطة بالسيولة، مما جعل المصارف تبادر فوراً الى تخفيض سقف السحوبات. فما قانونية هكذا إجراء؟ وهل هو حل جذري للأزمة المالية؟ وما أثر ذلك على حياة المودع الاجتماعية؟ وهل ان المواطن قادرعلى التكيّف مع مفاعيل التعاميم أو الإجراءات، التي تنعكس بغالبيتها ضغوطاً على المواطن والمودع؟ وبمعنى آخر هل سينعكس ذلك مباشرة على معيشة المواطن اللبناني، وعلى قدرته في الاستمرار بتأمين غذائه اليومي؟ لاسيما وان المصارف قد رمت كرة النار في مرمى العملاء المصرفيين، فقلّصت سقوف السحوبات النقدية، تفادياً لاضطرارها سحب مبالغ نقدية من مصرف لبنان تفوق المبلغ المحدّد بـ5 مليار ليرة.
قزي وسر تراجع حجم الودائع والقروض
تساؤلات عديدة للإجابة عنها التقت "الأفكار" خبير الأسواق المالية ورئيس مجلس ادرة "Standard Charetered Bank " في لبنان سابقاً دان قزي، وكان السؤال المدخل:
*- بعض الخبراء يؤكد بأنّ الفارق بين التراجع في حجم الودائع والتراجع في حجم القروض يبقى شاسعاً عند حوالى 6 مليارات دولار، بما يشير وفقاً لهم الى أنّ نسبة من الودائع المفقودة تم تحويلها الى الخارج. فهل تؤيد طروحاتهم؟ وهل من تفسير آخر لهذا الفارق؟
- إنّ هذا الفارق يمكن تفسيره ايضاً من خلال إقدام بعض المودعين على إغلاق حساباتهم وبيعها مقابل سيولة نقدية تقلّ عن قيمة الوديعة الاصلية بالاضافة الى عمليات الـ"haircut" التي تقوم بها المصارف على الودائع بالدولار من خلال تسديدها نقداً بالليرة اللبنانية وغيرها من الممارسات التي تقوم بها المصارف لتجميل ميزانياتها.
*-ألا يشير هذا التراجع بأن هناك أزمة بالمصارف؟
- إنّ تراجع حجم الودائع وحجم القروض يجب ان يكون أمراً ايجابياً حيث يوحي بأنّ أزمة المصارف تعالج نفسها بنفسها، وكان يمكن لهذا التراجع ان يساهم في تقليص حجم الخسائر او الاقتطاع الذي سيتكبّده المودع لو انّ القطاع المصرفي لم يواصل عمليات دولرة الودائع التي قام بها من بدء الأزمة.
وتابع قزي قائلاً:
- إنّ تراجع حجم الودائع بقيمة 30 مليار دولار منذ العام 2019 كان يجب ان يَنتج عنه تراجع في حجم الودائع بالدولار بالقيمة نفسها، إلّا انّ مواصلة دولرة الودائع على سعر الصرف الرسمي عند 1500 ليرة أدّى الى تراجع حجم الودائع بالدولار من 120.8 مليار دولار الى 114.9 ملياراً، أي بحوالى 7 مليارات دولار فقط، لأنّ معظم التراجع جاء في الودائع بالليرة اللبنانية نتيجة الدولرة، والدليل انّ 62.1 في المئة من التراجع في حجم الودائع جاء نتيجة تقلّص الودائع بالليرة اللبنانية لغاية تموز 2020 بقيمة 9.7 مليارات دولار. وفي السياق ذاته اؤكد انه لو لم يتم السماح بدولرة الودائع من الليرة الى الدولار، لكانت الودائع بالعملة الاجنبية قد تراجعت اليوم الى حوالى 90 مليار دولار، ممّا كان سيساهم في خفض نسبة الخسائر الـ "haircut" التي سيتحمّلها المودعون.
*- حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اتخذ قراراً بخفض سقف السحوبات حتى بالليرة، كيف تصف ذلك؟
[caption id="attachment_82350" align="alignleft" width="167"] دان قزي : الاستمرار في طبع الليرة من قبل مصرف لبنان وضخها لسحب الدولارات الوهمية من المصارف على سعر 3900 ل.ل لا يحل المشكلة.[/caption]- يجب فهم أهداف اللاعبين وصناع القرار، ومما لا شك فيه بأنّ سلامة يسعى إلى إطالة عمر الاحتياطي الإجمالي المتبقي المقدّرة قيمته بـ18 مليار دولار، لأطول فترة ممكنة، حتى انتهاء ولايته بشكل مؤكد، فالاحتياطي يشمل بشكل أساسي الدولارات المتدفقة إلى الخارج لتغطية كلفة الدعم، الذي يشكل الوقود القسم الأكبر منه. وقد حاول الحاكم رياض سلامة كخطوة أولى رفع الدعم عن المحروقات لكنه واجه معارضة شعبية واسعة، كما وقف رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب في وجهه، وقراره مبرر إلى حدّ ما عدم تحمّل ملامة إضافية على قرارات من هذا النوع، وترك الحكومة المقبلة تتحمّل العبء، لذا وقف في وجه خطة الحاكم. عندها سلك الحاكم طريقاً مختلفاً، فأجبر المستوردين الذين يستفيدون من الدعم على سعر دولار محدد عند 1515 ليرة على دفع ثمنه نقداً، أي ما يعادل نظرياً مليارات الدولارات.
واستطرد قزي قائلاً:
- امتص هذا القرار الليرات كلها من السوق، وبالتالي، يخيّر الحاكم الناس بين الاستمرار في الحصول على الوقود بأسعار متدنية باستخدام ليراتهم المحدودة أو استخدامها لشراء سلع أخرى، وقد يرشّد القرار إنفاق الناس إلى حدّ ما. لذا بدلاً من خفض قيمة الليرة وبالتالي خفض قدرة اللبنانيين العاديين الشرائية، من شأن وضع قيود على توافر الليرة أن يحقق الهدف نفسه. واعتبر أنّ المسألة تنطوي بشكل أساسي على استبدال السياسيات الحكومية بأدوات نقدية بهدف تحقيق التغيير السلوكي الذي ينشده سلامة لدى الناس وخفض الاستهلاك، وبالتالي تدفق الدولار إلى الخارج.
التداعيات السلبية لخفض السحوبات
*-ألا توجد تداعيات سلبية لقرار خفض السحوبات؟
- بالتأكيد هناك تداعيات من جراء خفض سقف السحوبات، وتشمل الآثار الجانبية استحداث تفاوت بين قيمة الليرة النقدية والليرة المصرفية (التي قد أسميتها بيرة مستعيراً حرف الباء من "بنك")، لذا لن أتفاجأ إذا ما بدأ التداول بالليرة عند 1.25 بيرة أو 1.5 بيرة. بمعنى آخر، سيلاحظ اللبنانيون فرقاً بين قيمة الليرة المصرفية التي يعجز المودع عن سحبها بسبب سقف السحوبات، والليرة النقدية، فتعادل كل ليرة نقدية 1.25 ليرة أو 1.5 ليرة مودعة في المصرف، مثلما يفوق الدولار النقدي الدولار المحجوز في المصرف قيمة. وهنا اشير الى انني سبق وابتكرت مصطلح " لولار" للإشارة إلى الدولار المحجوز في المصارف. وكما "البيرة"، يُعتبر "اللولار" أقل قيمة من الدولار لعدم قدرة المودع على التصرف به.
*- من سياق حديثك نفهم وكأنك تؤيد رفع الدعم؟
- إن ما تبقى من دولار في مصرف لبنان قليل جداً ولا مهرب من رفع الدعم إنما المطلوب هو خطة بديلة تحمي اللبناني. الامر ليس بصعب فمن الممكن على سبيل المثال العمل على تحسين شبكة المواصلات العامّة عبر مساعدات خارجية أو دعم سعر النقل العام كبديل عن دعم أسعار المحروقات. وهنا اشدد على ضرورة الحفاظ على احتياطي مصرف لبنان من الذهب وعدم المس به طالما أن الفساد مستمر، لأنه كل ما تبقى للبنان.
*- البعض يعتبر ان دمج المصارف حل لا بد منه ، هل تؤيد ذلك؟ وهل من خطوات معينة يفترض اتباعها لتطبيق آلية الدمج؟
- إنها خطوة ضرورية لكن لا يمكن أن تحصل قبل إعادة الهيكلة وإعادة رأس المال واستعادة أموال المودعين التي هُرّبت الى الخارج وهي الطريقة الوحيدة لإنقاذ القطاع حتّى ولو حصلنا على مساعدات من البنك الدولي.
تكليف الحريري والحلول
*- الحريري تم تكليفه فهل ستتحلحل الازمة؟
- لا يكفي أن نأتي بأفضل حكومة لحل الأزمة. فلنفترض أننا أتينا بوزراء من مستوى آينشتاين من المقيمين وبلدان الانتشار، وشكّلنا حكومة اختصاصيين ومستقلين وأنجزت خطة كاملة متكاملة باهرة للإنقاذ، لكن التصديق عليها وإقرارها في مجلس النواب قد يتعثر أو تعترضها عقبات.
وتابع قزي قائلاً:
- إن خطة حكومة تصريف الأعمال الحالية لم تكن سيئة بالمجمل لكنها (فُرمت) في البرلمان. واليوم لا يمكن إقرار خطة من قبل الحكومة المنتظرة بتعديلات كثيرة على خطة حكومة تصريف الأعمال، وإلا لن يوافق عليها صندوق النقد الدولي، الذي أُخذ بمساعدته التقنية ونصائحه في جوانب كثيرة منها. واخشى من أن أصحاب المصالح الخاصة الاقتصادية والمالية سيعارضون أي خطة إصلاحية تضع حدوداً لمحاصصاتهم وأرباحهم الفاحشة. ففي أيام الإزدهار كانت الخلافات حول محاصصة المصالح والأرباح والسرقات، في الكهرباء والاتصالات وغيرهما، أما اليوم فهؤلاء يرفضون أن يساهموا في محاصصة الخسائر في المصارف والودائع وما إلى ذلك.
*-وماذا عن خطة بيع أملاك الدولة التي طرحها بعض الافرقاء السياسيين مؤخراً وهل يمكن اعتمادها كحل؟
- إن خطة المصارف المضادة باستعمال أملاك الدولة لإطفاء الخسائر، هي عملياً تحميل اللبنانيين، المودعين وغير المودعين، والأجيال المقبلة، خسائر أخطاء لم يرتكبوها، بل إن نصف اللبنانيين تقريباً لا يملكون حتى حسابات مصرفية، وعليهم أن يتحملوا وأولادهم وأحفادهم خسائر القطاع المصرفي والسياسات المالية بموجب هذه الخطة، باعتبار أن الأملاك العامة هي ملك للشعب.
*-وما الحل اذاً؟
- إن الحل يكون بالتوزيع العادل للخسائر، وعلى كبار مالكي الأسهم والمتمولين وأصحاب الودائع الكبرى في المصارف الذين حققوا أرباحاً طائلة في أيام الإزدهار أن يتحملوا أجزاء من الخسارة في زمن التعثر، عن طريق تمليكهم أسهماً في المصارف بديلاً عن جزء من أموالهم غير المتوافرة حالياً، لا على الطريقة اللبنانية، إذ يريدون في زمن الخسائر تحميل العبء لغيرهم وللأجيال المقبلة.
وتابع قزي قائلاً:
- ثمة مشاكل وأزمات وكوارث حقيقية وأخرى وهمية. فانفجار مرفأ بيروت هو كارثة ومشكلة حقيقية فعلية ملموسة تسببت بسقوط ضحايا وجرحى ودمار منازل ومكاتب وأبنية وشوارع، وتحتاج إلى حل حقيقي بإعادة الإعمار. أما المبالغ التي يحكى عنها في المصارف وأنها نحو 120 مليار دولار، هي وهمية، وخسارة قسم منها وهمي لأنها كانت في الأساس دولارات وهمية لكونها من صنع الناس، وبالتالي حلها يكون بشكل وهمي على الورق.
الكارثة الوهمية!
*- على ماذا ارتكزت لتؤكد بأن المبالغ التي هي في المصارف تعتبر كارثة وهمية؟
-إن المشكلة الوهمية اليوم أن كبار المتمولين والمودعين، أو نحو 6000 مليونير وبينهم بعض أصحاب المليارات، يرفضون تحمل أي خسارة ويعملون لتوزيعها على سائر الشعب اللبناني، المودع وغير المودع، الأهل والأبناء والأحفاد، واشدد هنا على أن أملاك الدولة يجب أن تُستثمر لتخفيف البطالة وتنمية الاقتصاد، لا لتعويض خسارة قلة من أصحاب الملايين حققوا أرباحاً طائلة على مدى عقود.
*- الأوضاع السياسية قد تتأزم في القريب العاجل في حال التعثر في تشكيل الحكومة، فهل من انعكاس على سعر الدولار؟ وهل من نصائح اقتصادية معينة يفترض العمل بها؟
- بالنسبة لانعكاس التأزم السياسي في حال حصل، على سعر الدولار في السوق السوداء في المدى المنظور، فأرى أنه ينبغي علينا أن نعتمد ما يسمى (ريجيم الدولار)، أي أن نخفف من خروج الدولار من البلاد، سواء الموجود في لبنان، أو الذي يصل من الخارج ونعود ونصدره عبر الاستيراد. وهنا يمكن من خلال التوازن بين ما نصرفه من دولار على السلع والتجهيزات والمعدات المستوردة المختلفة، وما يصل إلى لبنان من خلال المغتربين الذين يرسلون مبالغ شهرية لمساعدة عائلاتهم، أن يتحقق استقرار الليرة مقابل الدولار بشكل طبيعي، بحيث يستقر سعر الصرف عند معدلات معينة تتشكل بفعل التوازن بين ما يدخل من دولار وما يخرج بفعل الاستيراد.
*- وماذا عن طبع الليرة وضخها في السوق الا يعتبر حل مؤقت؟
- إن الاستمرار في طبع الليرة من قبل مصرف لبنان وضخها لسحب الدولارات الوهمية من المصارف على سعر 3900 ل.ل، لا يحل المشكلة. ولا يمكن اعتبار ذلك تخفيفاً من خسائر المصارف بالدولار، الوهمي أساساً. فهذه المبالغ ستذهب إما للاستهلاك، أي ستكون خسائر بالدولار من جديد لأن ما يستهلكه اللبنانيون والمقيمون مستورد بنسبة تفوق الـ70 في المئة ، أو لشراء الدولار وتخزينه لأن لا ثقة بمن يتولى إدارة البلد وبمستقبل الليرة بفعل الإدارة السيئة. وارى أن الليرة لن تستقر طالما التوازن غير قائم بين الموجود من دولارات وما يدخل إلى لبنان، وبين ما يخرج لإستيراد السلع والحاجات المختلفة، وستستمر الليرة في التدهور بالمدى المنظور والأطول إلى حين تحقق هذا التوازن، ولن يحصل ذلك إلا عبر ما يسمى (ريجيم الدولار) كما أشرنا.
*- هل من إجراءات يفترض اتخاذها لتحقيق هذا التوازن؟
-لا بد من اتخاذ إجراءات صعبة، منها وقف الدعم عن المحروقات وغيرها، والتخفيف من العمال الأجانب إلى درجة كبيرة الذين يقبضون بالدولار ويحولونه إلى الخارج، ووقف طبع الليرة لإعطاء المودعين بالدولار ودائعهم على 3900 ل.ل للدولار. وعلينا وقف استيراد السلع والسيارات والتجهيزات أو غيرها الباهظة الكلفة، والاستعاضة عنها بأخرى أقل ثمناً للتخفيف من خروج الدولارات من البلاد، أو وضع ضرائب مرتفعة على من يريد استيرادها شرط أن يؤمِّن " Fresh Dollar " لذلك، ولا أن نواصل سياسة طبع كميات هائلة من الليرة لضخها في السوق والمصارف، ومن ثم تسييل الدولارات الوهمية على سعر 3900 ل.ل، ومن ثم العودة لشراء الدولار من السوق السوداء لاستيراد كماليات يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بأخرى في هذه المرحلة.