اذا كانت حكومة الاختصاصيين المستقلين قد سقطت مع اعتذار الرئيس المكلف الدكتور مصطفى اديب وعودته الى مركز عمله الاساسي في سفارة لبنان في برلين، فإن لا معطيات دقيقة حول طبيعة الحكومة العتيدة التي يفترض ان تبصر النور خلال الايام الاتية اذا حصل تفاهم بين القيادات السياسية على نوعها وطريقة تركيبهـــا والمهمات المطلوبة منـــها. الا ان ذلك ليس بالأمر المضمون نتيجة تباعد الاطراف في خياراتهم وتمسك كل طرف بمواقفه لاسيما "الثنائي الشيعي" الذي اسقط حكومة اديب وأعاد الكرة الحكومية الى منتصف الملعب. صحيح ان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون امهل القادة اللبنانيين الذين اتهمهم بــ "الخيانة الجماعية" مهلة ستة اسابيع على الاكثر لتشكيل الحكومة، لكن الصحيح ايضاً انه لم تصدر عن هذه القيادات اي اشارة توحي بالتجاوب مع الرغبة الرئاسية الفرنسية خصوصاً بعد تأخر الاستشارات النيابية الملزمة لغياب الاتفاق على اسم محتمل ليتولى تشكيل الحكومة.
وتذكر مصادر متابعة ان ما انتهت اليه تجربة مصطفى اديب كرئيس مكلف سابق هو ان الاتفاق على الخلف جزء لا يتجزأ من الاتفاق على الحكومة برمتها، ذلك ان ما يمكن ان يفرضه الرؤساء السابقون للحكومة في تكرار لما فعلوه مع اديب، سوف يسقطه "الثنائي الشيعي" في منتصف الطريق، ما يدل عن امتلاك الطــرفين (الرؤســاء السابقـــون للحكومـــة والثنائي الشيعي) حق الفيتو وهذه ظاهرة جديدة في الحياة السياسية اللبنانية لم تكن تحصل من قبل حيث كان "الثنائي الشيعي" يمـــلك وحده حــق النقض بالتنسيق مع حلفائــــه ولاسيما "التيار الوطني الحر" في مرحلة من المراحل. وفي رأي المصادر نفسها ان هذا الواقع يفرض معادلة جديدة خلاصتها انه لا بد من اتفاق صاحبي حق الفيتو على اسم الرئيس المكلف، لا بل على التركيبة الحكومية قبل الدخول في الاستشارات النيابية الملزمة لئلا تتكرر تجربة اديب. وامكانية الوصول الى تفاهم مسبق لا تبدو ممكنة في الظرف الراهن اذا ما استمرت الخلافات على الوتيرة نفسها، واذا ما ظل كل فريق ممسكاً بمطالب بدت في وقت من الاوقات مطالب تعجيزية "هشلت" السفير اديب واوصلته الى حد الاعتذار والعودة الى برلين.
لا تكرار لتجارب سابقة
ولعل المشهد الحكومي الراهن يمكن تلخيصه بوقائع عدة ابرزها انه لم يعد في الامكان تصور تخلي رؤساء الحكومات السابقين عن الدور الذين اضطلعوا به في المرحلة الاخيرة، ما لم يصر الى تكليف احدهم. جعلوا تجمعهم مرجعية سنية تستمد قوتها من كونهم الاكثر تمثيلاً في الشارع السني، دونما مفاضلة احدهم على الآخر. ولانهم سموا اديب، لم يعد يسهل إمرار تكليف شخصية سنية اخرى بلا موافقتهم، ان لم يكونوا هم وراء تسميتها، بمواصفاتهم هم التي تفترض سلفاً استفزاز الفريق الآخر. بات الرباعي السني نسخة مطابقة للثنائي الشيعي الذي لا يسع اي احد، بمن فيهم رئيس الجمهورية، تجاوز اعتراضه. كذلك فإن الرئيس نبيه بري وحزب الله قدما دليلاً اضافياً على ان لا حكومة في معزل عنهما كثنائي يمثل بمفرده الطائفة. شأن اولئك، لم يعد يسع الثنائي مع اي رئيس مكلف آخر التراجع عما أصر عليه مع اديب، سواء بالنسبة الى حقيبة المال او تسمية الوزراء الشيعة جميعاً.
من هنا، ترى المصادر المتابعة ان الرئيس العتيد للحكومة سيكون واحداً من اثنين: الرئيس سعد الحريري او الرئيس نجيب ميقاتي خصوصاً ان الرئيس تمام سلام كان اعلن مراراً انه لا يمكن ان يرأس حكومة يتعاون فيها مع عهد الرئيس ميشال عون، فيما لا يزال الرئيس ميقاتي يحفظ "خط الرجعة" مع رئيس الجمهورية على رغم الانتقادات التي يوجهها الى عهده سواء بالمفرق او بالجملة من خلال بيانات الرباعي الحكومي. وما ساعد في الحديث عن امكان عودة الرئيس ميقاتي الى السرايا ما طرحه خلال اطلالته التلفزيونية عبر محطة "الجديد" من تصور للحكومة العتيدة التي يراها تكنوسياسية تضم 14 وزيراً اختصاصياً و 6 وزراء دولة سياسيين وهو بذلك- حسب المصادر نفسها- سارع الى حجز طرحه على الطاولة الحكومية على نحو استباقي وهو يدرك جيداً ان نموذج اديب لن يتكرر سواء في ما خص طبيعة الاشخاص، اي مرشح من خارج نادي رؤساء الحكومات السابقين، او في ما يتصل بتركيبة الحكومة، خصوصاً وان الامين العام لــ "حزب الله" السيد حسن نصر الله حسم الانتقال الى الجولة الثانية من المبادرة، بمعنى ان ما سرى مع اديب لن يسري على من سيليه.
الاهم من ذلك، هو ان اياً من الاطراف، لاسيما من جانب شركائه في الرباعي السني، لم يسجل اعتراضه على طرح القطب الطرابلسي، وهو الذي يعرف ان الحكومة التكنوسياسية طرح يدغدغ حسابات كل من "التيار الوطني الحر" والثنائي الشيعي، وقد يفسحان في المجال امام مناقشتها مع صاحب المبادرة، ولو ان لقوى الثامن من آذار الكثير من الملاحظات على سلوك ميقاتي بشكل عام.
ميقاتي الأوفر حظاً
صحيح ان الزعيم الطرابلسي يواظب على التأكيد انه متمسك بعودة الحريري الى السرايا، لكن الصحيح ايضاً انه اذا استقر رأي رؤساء الحكومة السابقين عليه فلن يتردد في القبول مزوداً بدعمهم اولاً، وبتأييد المرجعيات الدينية السنية التي تربطه بهم علاقات متينة، فضلاً عن صداقته مع الرئيس نبيه بري الذي وقف الى جانبه مرات عدة، لاسيما بعد ترؤسه الحكومة بعد الرئيس الحريري في عهد الرئيس ميشال سليمان، فضلاً عن ان الحماسة التي كان يبديها الرئيس بري تجاه الرئيس الحريري لم تعد كما كانت في السابق بعدما ظهر موقف الحريري خلال مرحلة تكليف اديب. في المقابلة التلفزيونية نفسها وضع ميقاتي خريطة طريق يمكن ان تساعده في عبور المرحلة المقبلة، خصوصاً انه ليس ببعيد عن الفرنسيين وعن القوى الدولية المؤثرة والزخم العربي الفاعل لاسيما في دول الخليج وفي مقدمتها السعودية التي تشير المعلومات انها لم تتقبل بعد عودة الحريري الى السرايا على رغم التدخلات الدولية معها لتسهيل هذه العودة. وسيكون من السهل تشكيل فريق عمل منسجم مع ميقاتي قادر على الاصلاح وله تغطية القوى السياسية التي سوف تتمثل بوزراء الدولة الخمسة الذين سوف يشكلون مع رئيس الوزراء السني، التغطية السياسية اللازمة من المكونات الطائفية في لبنان. مع الاشارة الى ان الوزراء السياديين الخمسة (غير رئيس الحكومة) سيكون بينهم وزير للرئيس بري، وآخر للرئيس عون، وثالث للنائب السابق وليد جنبلاط، على ان يكون لكل من الارثوذكس والكاثوليك وزير يتم اختياره من الاكثرية النيابية مع ضمان الحصول على "بركة " الكنيستين الكاثوليكية والارثوذكسية.
وهكذا يبدو ان على الطاولة الحكومية لا توجد سوى مبادرة الرئيس ميقاتي التي وضعت في خانة المرحلة الثانية من المبادرة الفرنسية التي قضت باعطاء اللبنانيين مهلة 4 الى 6 اسابيع للاتفاق على شكل الحكومة الجديدة والتي – وفق صيغة ميقاتي- لن يكون من السهل رفضها لانها تتناغم مع مطلب اغلب الكتل بضرورة وجود سياسيين في حكومة سيكون على عاتقها الكثير من الملفات الشائكة التي تتطلب حصانة سياسية لمقاربتها. ولأنه من غير المنطقي تكرار تجربة اديب او الرئيس حسان دياب فهذا يعني ان الرئيس العتيد للحكومة سيكون من نادي رؤساء الحكومة السابقين ، والأوفر حظاً في هذه الحالة هو الرئيس ميقاتي.