اسرائيل خـطّطت وتركيا نفـّذت: مجـازر وتهجيـر لاغتيال الـذاكرة!
قبل فترة وجيزة، حرّر الجيش السوري بلدة معلولا من احتلالها على أيدي الجماعات المتطرفة. صحيح أن ابناءها لم يعودوا بعد الى أراضيهم ومنازلهم، لكنهم على تخوّف كبير من هذه الجماعات التي ما زالت على أطراف البلدة قادرة على التوغل، وبالتالي القتل والتهجير.
قبل أيام أيضاً مرّت سنة على خطف المطرانين بولس يازجي الأرثوذكسي ويوحنا ابراهيم السرياني، ومرّت خلال هذه السنة كل الوعود والكلمات والعهود والأمنيات بقرب الإفراج عن المطرانين الأسيرين.. لا بل إن الأمور زادت بشاعة ورعباً بقتل عدد من رجال الدين المسيحيين على قناعة القتلة «اضرب الراعي تشرد الرعية>. والرعايا سوريون وعراقيون من أرمن وسريان وكلدان وآشوريون شكّلوا عبر التاريخ حضارات عريقة، ومن بقي منهم بعد المجازر وعمليات التهجير المتوالية يحاولون قدر الإمكان الحفاظ على تراثهم وتقاليدهم وعاداتهم ولغاتهم في البلدان التي اختاروها وطناً لهم.. لكنهم في الوقت نفسه يعيشون هواجس رعب كبير أكدته حوادث أخيرة متعاقبة أدت بعد دخول الجيش الأميركي بغداد الى تهجير حوالى 90 بالمئة من السريان العراقيين، وثلاثة أرباع الارمن السوريين، هرباً من هواجس مجازر جديدة قد يتعرضون لها، خصوصاً أن ليس في الأفق السوري ما يبشّر بهدوء الأحوال وعودة الاستقرار، وسط حرب شرسة تتداخل فيها المصالح المحلية والاقليمية والدولية، أدت الى سقوط مئات آلاف الضحايا وتشريد الملايين الى الدول المجاورة، فكان للبنان حصته الكبيرة من هؤلاء.
<الرعب في سوريا والعراق قاتل ومقزّز>... هذا ما يتوافق عليه منسّق شؤون النازحين الأرمن السوريين في لبنان أواديس كيدانيان ومطران بيروت للسريان الأرثوذكس دانيال كورية. الاثنان يتهمان السياسة التركية عبر التاريخ الى اليوم بما تعرّض له الشعبان من كوارث ومذابح وتهجير. في الوقت نفسه لا يبرّئان المصالح الدولية والاقليمية من مسلسل دموي يجدّد حلقاته لأهداف لا تبدو واضحة المعالم حتى الآن، لكن يد اسرائيل أكيدة وبارزة. فما عجزت عن تحقيقه في لبنان باقتتال طائفي بين المسيحيين والمسلمين على طول 15 سنة، تحاول اليوم اشعاله بحرب سنية - شيعية تعكس آثارها على مسيحيي المنطقة. وفي كل الاحوال، يتخلص الاتراك من الارمن بتهجيرهم مرة اخرى الى دول العالم، حيث الزمن كفيل بتذويبهم في مجتمعاتهم الجديدة، ومثلهم السريان في مواقع انتشارهم الاوروبية والاميركية والاسترالية، فتخلو الساحة العربية من مشرقييها المسيحيين الذين إن حصل، والكلام للمطران كورية <فقولوا هذه نهاية العالم>.
المطران كورية: نحن أيضاً ذبحنا
المطران كورية يرى أن ما يتعرض له السريان اليوم، وخصوصاً بعد دخول الجيش الاميركي العراق، ليس جديداً على المآسي السريانية الكثيرة التي شرّدت شعبنا، كما شرّدت كل الاقليات المسيحية، وهي أساس حضارات هذا الشرق. ولفت في حديثه لـ<الأفكار> ان الإبادة التي عرفت حينئذ بما يسمى بـ<الإبادة الأرمنية>، شملت أيضاً إبادة السريان. وان كان الأرمن قد خسروا مليون ونصف مليون ضحية، فقد خسرنا 600 ألف سرياني. نحن أيضاً ذبحنا. الأمور حصلت بالتوقيت نفسه. بدأت مع الارمن بتآمر واضح بين السلطنة العثمانية وبعض العشائر الكردية في جنوب تركيا. مات مئات الالوف ومثلهم شرّدوا، كثيرهم أطفال ونساء وشيوخ. هربوا الى الجزيرة السورية: حلب والقامشلي والحسكة، وبعضهم وصل الى حمص ودمشق.
<وتكررت المأساة السريانية موتاً وتهجيراً - يتابع المطران كورية - انهزمت تركيا في الحرب العالمية الاولى بعدما فرغت البلاد من مسيحييها، أكان بالتخويف والترغيب والموت أم بفعل المجاعة الكبرى عام 1925، والأحياء منهم نزحوا الى سوريا حيث عاشوا في أمان حتى الثمانينات. لكن الازمة الاقتصادية التي ضربت سوريا في هذه الفترة حملت أعداداً كبيرة من السريان للسفر الى أوروبا. وفي العام 1992، ومع تفاقم النعرة الطائفية في العراق وتغلغل المنظمات الإرهابية في شتى أنحاء البلاد، كان من بقي من السريان في بلاد ما بين النهرين الحلقة الأضعف، لا شأن لهم بحرب عبثية، ولا يملكون السلاح للدفاع عن أنفسهم.. ومع تردي الاوضاع حيث لم يبقَ سوى 200 ألف مسيحي في العراق من أصل مليونين>.
ولفت المطران كورية الى أن هجرة السريان وغيرهم من المسيحيين من العراق وسوريا يتوافق مع خطة اسرائيلية <فهي المستفيد الوحيد، خصوصاً لما يجري في سوريا، ذلك أن الدولة اليهودية لن تشفي غليلها ما لم تنتقم من سلالة نبوخذ نصر حكام ما بين النهرين. هو حقد تاريخي كبير يتجدد اليوم>.
يضيف كورية: <عندما دخل الجيش الاميركي العراق أقدم في اول خطوة له على غزو المتحف العراقي لأنه يضم تاريخ السريان أعرق الحضارات 140 ألف قطعة من تاريخنا العريق اختفت في لحظات. صحيح أن السريان يحتفظون بقلوبهم وعقولهم وأفكارهم بهذا التراث العظيم، لكن التهجير المتوالي الذي أصابهم وأخذهم بعيداً عن مشرقهم قد يذوب شيئاً فشيئاً في أوطانهم الغربية الجديدة>. وانتهى للقول: <عانى السريان كثيراً بفعل الاضطهادات المتعاقبة وخصوصاً في العقود الأخيرة التي تعتبر الى حد كبير إبادة ثانية. لقد فقدنا الكثير من شبابنا الأبرياء في العراق وسوريا>. وتساءل: ماذا يعني خطف المطرانين اليازجي وإبراهيم سوى رسالة الى المسيحيين بمغادرة مشرقهم، <فإن مات الراعي تشرّدت الرعية>،
خصوصاً ان رجل الدين السرياني هو رجل دين ودنيا>. وأكد أن الكنيسة السريانية الارثوذكسية تحاول توفير كل جهد ومساعدة ممكنة لمساعدة النازحين الى لبنان، بالتعاون مع العديد من الجمعيات الاهلية، علماً أن غالبية هؤلاء يعتبرون لبنان مجرّد معبر الى الدول الغربية حيث لكل منهم أهل وأقارب وأصحاب. علماً أن مدن لبنان وقراه تحمل في غالبيتها اسماء سريانية: <لب نون> معناها قلب الله، بيروت بيت الصنوبر، بكفيا بيت الصخر، عيتا الشعب كنيسة الشعب.. والمؤسف أن ليس لنا في لبنان <رجل كرسي>.
كيدانيان: لا للمخيمات
منسّق شؤون النازحين الأرمن السوريين في لبنان أواديس كيدانيان رأى ان الارمن كما سائر الاقليات المشرقية المسيحية عانوا عبر التاريخ كما حالهم اليوم، وربما في المستقبل الكثير من الويلات: ذبح و تهجير وتشريد.. لكنه لا ينفي ان هذه الاقليات، وعلى رأسها الارمن، تعيش الرجاء كل يوم، ليس على الصعيد المسيحي المشرقي فحسب، إنما على صعيد المشرق العربي بكل طوائفه ومذاهبه وأكثرياته وأقلياته.
يتحدث كيدانيان لـ<الافكار> بكل الرضى وراحة الضمير على أن الكنيسة الارمنية الارثوذكسية والكاثوليكية والانجيلية الآن في سوريا أم في لبنان لم تبخل على النازحين الارمن، أكان في الداخل السوري أم في لبنان بتقديم كل مساعدة ممكنة، لافتاً الى ان كل القوى الارمنية المدنية والحزبية جعلت من هذه القضية المستجدة اليوم، بعيداً عن كل تسييس أو تمذهب، ما مكّنها من تحقيق نجاحات طيبة ومثمرة. <ففي المرحلة الأولى من النزوح، تمكّنت المنسقية من توفير مختلف اللوازم الاجتماعية للنازحين الارمن، أكان في تأمين المدارس للطلاب وفي كل الصفوف، أم تقديم المساعدات الطبية، الى جانب المواد الغذائية.. إلا أن المنسقية وبالتفاهم مع الكنائس والجمعيات الاهلية رفضت في كل الاحوال اقامة مخيمات <حتى تثبّت أرمن سوريا في منازلهم وأراضيهم.. كان الهدف ألا تصبح هذه المخيمات دافعاً للارمن السوريين للقدوم الى لبنان على اعتبار أنهم سيجدون فيه أماكن الاقامة إن عزّت عليهم بيوت اخوانهم وأصدقائهم الارمن، علماً أنهم على أتم الاستعداد لمواجهة كل طارئ>.
وكما المطران دانيال كورية، يذكّر كيدانيان بالمجزرة الارمنية البشعة على يد الحكام العثمانيين في بدايات القرن الماضي، مشيراً الى <ان ما تعرضت له بلدة كسب الارمنية السورية في الايام الاخيرة الماضية لا يمكن فصله عن السياسة التركية المتبعة دائماً تجاه الارمن في ضرورة سلخهم عن قراهم وبيوتهم وتهجيرهم خارج هذا الشرق وبعيداً عن الحدود التركية - السورية، علّ الأرمن ينسون بهذا التهجير القسري وما سبقه من مجازر، ذاكرتهم وتاريخهم ولغتهم>.
والسؤال الآن: ماذا حدث في بلدة كسب لتأخذ هذه القضية أبعاداً أكثر مما استحقته حلب حاضنة الاكثرية الارمنية على طول عشرة عقود؟
يقاطع كيدانيان السؤال ليؤكد <ان مسلمي وأكراد شمال سوريا وما يسمى بالجزيرة، هم من فتحوا أبوابهم ومنازلهم لاستقبال طوابير النازحين الارمن من نساء وشيوخ وأطفال ويتامى بعد المجزرة الرهيبة> مشيراً في الوقت نفسه الى عملية التزاوج والحضانة التي حدثت في تلك الفترة بين الارمن والاكراد، وحيث راح البعض يفتش عن جذوره ليجدها عند شقيقة تزوجت كردياً او شقيقاً حضنته عائلة كردية، فامتثل لها لغة وعقيدة>.
ولما كانت حلب عاصمة الارمن السوريين، ويعيش منهم فيها حوالى 50 ألف نسمة، وأقليات أرمنية في الشام واللاذقية وحماه وحمص، يبدو الرهان التركي واضحاً على تشريد أرمن حلب خارج البلاد. <نعرف ذلك، يقول كيدانيان، لا بل نؤكده، إنما وبفعل اصرارهم وبدعم منا، ما زال حوالى ثلاثين ألفاً في المدينة>.
<أما الحسكة، وهي بلدة ارمنية في أصلها وجذورها وتراثها ويعود تاريخها الى بدايات الارمــــن في ســـــوريا، فقضية أخرى لوجودها على الحـــــدود التركيــــــة - السورية، وحيث يمكن قطع الحدود بين البلدين سيراً على الاقدام، مما أدى الى نشوء علاقات عائلية وتجارية بين السكان دون ان يعني ذلك تخلي أرمن بلدة كسب عن ذاكرة المجزرة الرهيبة، <أرمن كسب رأسهم يابس>..
<لكن ما حصل في بلدة كسب حمل مفاجأة كبيرة، يتابع كيدانيان حديثه، وحسب المعلومات التي وصلتنا انه في ليلة 20 آذار/ مارس الماضي، وصباح الواحد والعشرين منه، انسحبت القوة التركية المتمركزة على الحدود دون سابق إنذار. استشعر الاهالي ان الانسحاب ليس عن عبث، فأبلغت العائلات بعضها بعضاً بضرورة مغادرة البلدة. حدث ذلك ولم يبقَ فيها سوى أقلية رفضت النزوح لتفاجأ بدخول الجماعات المتطرفة من داعش والنصرة بيوتهم. قتلوا وشردوا وسرقوا ونهبوا... دون أي تحرك من الجانب التركي. ما يعني أن الرهان على تركيا كان وسيبقى من الاخطاء القاتلة ليس للارمن والاقليات المسيحية فحسب، إنما لكل العرب>.
والتوقعات؟ يرى كيدانيان أن الخوف سيّد الساحة في بلدة كسب كما في عموم سوريا. 670 عائلة من كسب انتقلت الى اللاذقية برعاية الكنائس والاديــــرة فيها. وحتى الآن ليس من قرار لـــــدى هــــؤلاء بالعودة الى بلدتهم، لا بل ان العودة شبه مستحيلة. لكن 70 عائلة غادرت اللاذقية الى لبنان حيث تلقوا كل المساعدات الممكنة، والقادرون منهم استأجروا بيوتاً.. لكن الخــــوف يسكنهم كما بــــاقي الارمن السوريين، وإن كان لسان حالهـــــم يقول: <لا بد من العودة عاجلاً أم آجلاً>.