مرة جديدة تثبت الأحداث السياسية في لبنان أن العلاقة بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ليست على ما يرام على رغم المحاولات التي تبذل لاثبات العكس، وعلى رغم اللقاءات التي تعقد في قصر بعبدا بين الرجلين في مناسبات عدة. وفي كل مرة يظن السياسيون ان الامور "انتظمت" بين الرئيسين، سرعان مع يتضح ان هذا الاستنتاج ليس في محله.... قد يكون من الصعب ان تكون العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب علاقة متناغمة، لكنها تكون في اسوأ الاحوال "مقبولة" نظراً لحاجـــة الاول الى الثاني والعكس ايضاً. اما في لبنان فإن المشهد يختلف في كل مرة تصل المواجهات الى ذروتها. وليس سراً ان الرئيس بري الذي لم يصوت للعماد عون يوم انتخابه رئيساً للجمهورية، ولا هو كان جزءاً من التسوية التي اوصلت عون الى قصر بعبدا على رغم ان حليف عون، اي حزب الله، هو حليف بري وهما يشكلان "الثنائي الشيعي" الذي له وزنه على الساحة السياسية اللبنانية وله دوره المؤثر في مجريات الاحداث، لكن هذه الثنائية لم تنعكس تقارباً بين العماد عون وبري اذ ظلت النار تحت الرماد، وهي تشتعل حيناً ثم تخمد احياناً. كثيرون يقولون ان لا انسجام بين الرجلين وان المياه لم تجر في قنواتهما وانهما من مدرستين مختلفتين، وراهن الكثيرون على ان تجمعهما يوماً صلة التفاهم، فكان ذلك يصح احياناً، لكن لا يدوم طويلاً....
أحد وجوه هذه "المواجهة" المستمرة بين بعبدا وعين التينة، برز الاسبوع الماضي خلال لقاء الرئيس عون برئيس واعضاء المجلس الدستوري الذين جاؤوا لتسليم بعبدا تصاريح الذمة المالية التي نص عليها قانون الاثراء غير المشروع. الا ان الحديث تشعب من عمل المجلس الدستوري الى دوره، فكان كلام للرئيس عون بأن على المجلس الدستوري ان يتولى تفسير الدستور وفق ما نصت عليه "وثيقة الوفاق الوطني" التي اقرت في مؤتمر الطائف العام 1989 الى جانب دوره في التدقيق في دستورية القوانين، ولم ينس الرئيس عون ان مهمة تفسير الدستور نزعت من المجلس الدستوري ووضعت حصراً في مجلس النواب خلال مناقشة الاصلاحات التي وردت في الطائف في مجلس النواب، وعوضاً عن ان يحدد الدستور الجديد للجمهورية الثانية الذي وردت خطوطه العريضة في وثيقة الطائف، ارتأى النواب لدى المناقشة حصر دور المجلس الدستوري بالتدقيق في دستورية القوانين فقط من دون تفسير الدستور على اساس ان مجلس النواب، الذي هو سيد نفسه، مؤتمن على الدستور وله وحده ان يفسر النصوص الدستورية لأنه من يملك حق تعديل الدستور وفق آلية محددة، فخرج الدستور الجديد المنبثق عن اتفاق الطائف من دون النص الذي كان ورد اصلاً في "وثيقة الوفاق الوطني" والذي يحدد مهمة المجلس الدستوري بتفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين.
موقف عون من ثابتتين
لم يكن الرئيس عون، كما تقول مصادره، في نيته اثارة مادة خلافية جديدة بينه وبين الرئيس بري، لأنه كان يوصف واقعاً في معرض حديثه عن صلاحيات المجلس الدستوري وذلك انطلاقاً من ثابتتين:
-الاولى ان التوافق الذي حصل في الطائف على انشاء مجلس دستوري في لبنان، ركز على مهمتين لهذا المجلس، تفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين، اي ان النواب الذين اجتمعوا في المملكة السعودية لوضع اسس لبنان ما بعد الحرب الاهلية، اعطوا المجلس المستحدث صلاحية تفسير القوانين لأن هذه المهمة ليست من مهام السلطة التشريعية التي تسن القوانين واستطراداً لا يمكن للهيئة نفسها ان تشرع انطلاقاً من قواعد دستورية معينة، وتكون في الوقت نفسه قادرة ان تفسر هذه القواعد وتبدل فيها. وبالتالي فإن ارادة النواب كانت في انشاء مجلس دستوري يتولى تفسير الدستور، لكن المجلس نفسه الذي استحدث المجلس الدستوري اسقط من مهامه ما كان اعطاه اياه....
-اما الثابتة الثانية فهي، في نظر الرئيس عون، تتصل موضوعياً بعمل المجلس النيابي الذي يسن القوانين وبالتالي لا يمكن للمشترع نفسه ان يضع قوانين ثم يتولى هو مراقبة او تفسير الدستور الذي هو اب القوانين والاطار الذي تستمد القوانين قوتها التشريعية، والا لماذا الحاجة الى مجلس دستوري اذا كان مجلس النواب يعدل ويبدل ويقر قوانين اذ لا حاجة الى مجلس يدرس دستورية هذه القوانين طالما ان النواب هم انفسهم يشرعون ويفسرون.... وبالتالي تنعدم قيمة الهيئة المراقبة لمدى تقيد النواب بقانونية ودستورية القوانين.
انطلاقاً من هاتين الثابتتين اتت وجهة نظر الرئيس عون التي ادلى بها امام رئيس المجلس الدستوري واعضائه الذين ايدوا رئيس الجمهورية بموقفه واقترحوا عليه تعديل مهام المجلس الدستوري، اي استطراداً اجراء تعديل في الدستور يعيد الى المجلس الدستوري ما كان اعطاه اياه مؤتمر الطائف من صلاحيات. لكن هذا الموقف الرئاسي سرعان ما رد عليه رئيس مجلس النواب معتبراً ان دور المجلس الدستوري هو مراقبة دستورية القوانين من دون ان يتعداها الى تفسير الدستور الذي بقي- حسب الرئيس بري- من حق المجلس النيابي من دون سواه، وهذا الامر حسمه، الدستور ما بعد اتفاق الطائف بعد نقاش ختم باجماع في الهيئة العامة. لقد كان من الممكن ان يمر "توضيح" الرئيس بري رداً على موقف الرئيس عون في اطار "سلمي" لولا ان حملة برزت بعد صدور بيان الرئيس بري تتهم الرئيس عون بخرق الدستور وبمحاولة السيطرة على احد ابرز مهام مجلس النواب. وتوسعت الحملة ليشارك فيها نواب من كتلة الرئيس بري وآخرين من خارجها حتى بدا الامر وكأنه مواجهة جديدة بين بعبدا وعين التينة تندرج في سلسلة المواجهات الصامتة حيناً والمعلنة احياناً بين رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي كان ابرزها امتناع بري عن تحديد جلسة لتلاوة رسالة كان وجهها الرئيس عون الى مجلس النواب لتفسير المادة 95 من الدستور، واخرى حول احدى مواد الموازنة العام 2017، ناهيك بخلافات متفرقة لم يلتق الرجلان على ايجاد حل لها يتصل بعضها بأمور ادارية ووظيفية لامست "نفوذ" الرئيس بري في الادارة والمؤسسات العامة، واستعاد كثيرون الملف الخلافي الابرز بين بعبدا وعين التينة المتصل بمكافحة الفساد واقرار القوانين المرتبطة بهذه المسؤولية، فضلاً عن "الصراع الصامت" الذي دار حول التدقيق الجنائي المالي في حسابات مصرف لبنان والادارات العامة والذي انتهى بـ "فوز" حققه الرئيس عون من خلال تبني مجلس النواب لدعوة الرئيس عون واصداره قراراً تحول في جلسة لاحقة للمجلس الى قانون مدة تنفيذه سنة واحدة.
وثمة من يقول ان هذا القانون الذي اقره مجلس النواب على مضض لن يحقق المطلوب منه وما اقراره الا لامتصاص الرغبة الشعبية بالمضي في عملية مكافحة الفساد لأنها مطلب شعبي يمكن "تنفيسه" في اي وقت من خلال الممارسة.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه حقوقيون عن ان المجلس الدستوري من خلال القرارات المبرمة والملزمة التنفيذ التي يصدرها، توسع اكثر من مرة في تفسيره للقوانين المطعون بها واستطراداً فسّر مواد دستورية، ثمة من يرى ان النقاش العلمي حول دور المجلس الدستوري لن يكون سهلاً لأن الملف سيس وبات مادة خلافية سياسية لا مكان فيها للنصوص القانونية او الدستورية لأنها باتت في عهدة السياسيين المتواجهين مع بعضهم البعض وخرجت من ايدي الحقوقيين والدستوريين، واعادت احياء الخلاف القديم الجديد بين الرئيسين عون وبري الذي لا يعالج بالقانون بل بالسياسة. ولأن وراء الاكمة ما وراءها، فإن من غير الممكن الوصول الى نهاية سعيدة لهذا الخلاف الرئاسي الذي يتجدد في كل مرة يسعى الرئيس عون الى تصحيح واقع دستوري معين فيأتيه الرد بأنه يعمل على انتهاك الدستور الذي تقول بعبدا انها متمسكة به نصاً وروحاً، مستذكرة ان الرئيس عون استعمل حقه في تعليق اعمال مجلس النواب مدة شهر عندما رأى ان المجلس السابق يمكن ان يمدد لنفسه مرة اضافية. وحينها لم يمر موقف الرئيس عون مرور الكرام، بل راكم المزيد من الخلافات مع الرئيس بري... فطفح الكيل.