بقلم عبير أنطون
[caption id="attachment_84172" align="alignleft" width="508"] إحياء الذكرى الـ 40 للحرب أمام المتحف.[/caption]محبّة، تسامح، احترام، انه الثالوث الذي تعتمده جمعية "فرح العطاء" ركيزة لعملها، وهذه المنطلقات، مع الهدف الدائم بتحصين السلم الأهلي، جعلتها من أكثر الجمعيات نشاطاً وصدقية حتى اكتسبت، ليس ثقة المجتمع اللبناني وحده، وإنما الدولي أيضاً، وأضحت "فرح العطاء" اسماً مسجّلاً في عالم الثقة التي تفتقده الكثير من الجمعيات والجهات والفاعليات لدى رأي عام لبناني وخارجي اصبحت علاقته بكلمة "ثقة" مهزوزة، ومعلَقة على الف شك وتساؤل.
فما الذي أكسب هذه الجمعية الثقة؟ متى كانت انطلاقتها، وما الذي يقوله رئيسها مارك طربيه لـ"الأفكار" حول نشاطاتها بشكل خاص بعد انفجار المرفأ، ومع شهر الأعياد وعند مطلع السنة الجديدة؟ ماذا عن الشفافية في الموارد والأعمال والتقارير؟ واي توجيهات للجمعية من المؤسس نقيب المحامين الحالي ملحم خلف؟
مع مارك طربيه الذي انضم الى "فرح العطاء" وهو في التاسعة من عمره، ويتسلّم اليوم سدة رئاستها، نعود بلمحة موجزة الى تأسيس الجمعية في العام 1985 عندما كان لبنان في أوج حرب أهلية تطال كل فئاته وكل أراضيه. فقد تأسّست هذه الجمعية بسبب الحرب وجاءت لترفضها وتنبذها بهدف إعادة بناء الجسور والجمع فيما بين اللبنانيين فتذكّرهم بجوهر لبنان ودوره، وهذا الأمر قامت به "فرح العطاء" عبر إنشاء مخيّمات للأطفال الذين جاؤوا من كل المناطق حتى يتعلّموا كيف يعيشون سوياً على ثلاثة مبادئ: المحبة والتسامح والاحترام ...عندها، بحسب مارك، كان من الجنون أن يُرسل أحدهم ابنه إلى مخيّم صيفي في بلدٍ يشهد حرباً وقتلاً على الهويّة في ذلك الوقت، ولكن الخبرة التي كان يكتسبها الأطفال خلال أيام وابتداء نهارهم بالنشيد الوطني اللبناني والاختلاط بفرق اخرى، واكتشاف مناطق لبنان جميعها مع انهاء نهارهم بدعاءٍ مشترك، وتعلّمهم سماع بعضهم البعض وكيف يدعو كلٌ منهم ربّه، جعل من التجربة ،
[caption id="attachment_84173" align="alignleft" width="508"] إدارة عمليات فرح العطاء.[/caption]تجربة حياة غيّرت أجيالاً منذ العام 1985 حتى اليوم. ويذكر مارك انه حين كان في السابعة من عمره شارك في أوّل مخيّم، ومنذ ذلك الحين حتى اليوم أصبح له بيتاً في كل قرية لبنانية تقريباً من إخوته الذين تعرّف عليهم و"صار بيننا فرح العطاء"، وقد علمته التجربة أن يرى لبنان بطريقة مختلفة، وعلّمته أن يحبّ الآخر والأهم ألا يخاف من الآخر، مؤكّدا أننا اليوم بأمسّ الحاجة إلى هذا الحسّ من المواطنة وإلى هذا الحبّ للآخر وعدم الخوف منه.
بناء المواطنة ارتكزت عليه الجمعية في ما يربو على خمسة وثلاثين عاماً من خلال العمل مع الشباب والمتطوّعين الذين قدموا وكسروا الحواجز، ولم يتركوا قرية او مدينة في لبنان إلا ووصلوا إليها، وساعدوا فيها وأنجزوا، ولمّوا شبابها على الفرح والعطاء. فمن مئات المخيمات للاطفال والشباب، الى مساعدة المناطق المنكوبة خاصة بعد جولات العنف في طرابلس، الى الأحياء التي كانت على موعد كل فترة مع انفجار او اغتيال، وصولاً الى إحياء ذكرى الحرب الاليمة حتى "تنذكر وما تنعاد". كذلك جعلت الجمعية بين مهامها أيضاً ترميم سبعة سجون على مساحة الوطن بناء على معايير أوروبية، فضلاً عن ترميم ما يفوق العشرين مدرسة رسمية، هذا عدا عن إحياء اعياد الاستقلال وغيرها من المناسبات الوطنية وصولاً في الأشهر الأخيرة من هذا العام الى المساندة واعمار ما تهدّم عقب الانفجار الثالث الأكبر في تاريخ البشرية والذي طال مدينة بيروت في الرابع من آب للعام 2020.
وهذا العمل بروح الالفة والمحبة وبناء ثقافة السلام والتواصل، حصل فعلاً يقول مارك ، ولم يكن مجرد تمنٍّ أو فكرة فلسفية أو تصوّر، إنه من الإنجازات. والدليل انه لما رفعت الجمعية النداء
[caption id="attachment_84177" align="alignleft" width="390"] مارك طربيه ..الدينامو المحرك.[/caption]للمساعدة عقب انفجار المرفأ، كما في غير مناسبة سابقة، هب المتطوعون من مختلف المناطق اللبنانيين، ومن كل الأعمار والفئات، ونزلوا الى الأرض وأدهشوا من رأوهم فحمّسوا بدورهم غيرهم ايضاً على التشمير عن الزنود . هذا يبرهن، بحسب طربيه، أن النخوة والتعاضد الاجتماعي لا يزالان موجودين، وحين نمتلك هذه النفسية وهذا الفكر فنحن بألف خير.
مارك الذي سبق وساهم شخصياً في إعمار الأحياء التي دمّرتها أحقاد الحرب، كان قاد ووجّه وأشرف وبث روح النخوة في الشبيبة لإعادة إعمار حي في الأشرفية، وآخر في عبرا قرب صيدا، وبيوت عدّة في الجنوب، وفي باب التبانة، وجبل محسن، وبعل الدراويش. كذلك فإنه يذكر على سبيل المثال انه في العام 2006 خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان كانت "فرح العطاء" أوّل جمعية تصل إلى الجنوب بعد وقف إطلاق النار حتى قبل القوى الأمنية: "كان لدينا أكثر من 50 شاحنة وأكثر من 300 متطوّع ذهبوا إلى الجنوب وساهموا بعمليات إعادة الإعمار ووقفوا إلى جانب أهلنا في الجنوب. كذلك، حين حصلت خلافات بين باب التبانة وجبل محسن التي أدت إلى حرب شوارع بينهما استطعنا أن ندخل وأن نوقف هذه الحرب وجئنا بالأولاد من المنطقتين وأنشأنا المخيّمات لهم وأعدنا دمجهم مع بعضهم البعض، وحين حصل الأمر ذاته في البقاع بين تعلبايا وسعدنايل لعبنا دوراً في إخماد النار المستعرة. وحين حصلت مشاكل في البلد وتمّ إقفاله بأسلاك حديدية استطعنا الوقوف بين ساحة ما كان يُسمّى بـ 8 و 14 اذار وإلغاء الجدار بينهما. ولما شهدنا تشنّجات في بيروت بين الخندق الغميق وكورنيش المزرعة استطعنا أن نجمع أبناء المنطقتين حول طاولة رمضانية. نحن لا يمكننا بشكل عام أن نكون موجودين دائماً إنما عند حصول أمر يذكّر بالحرب الأهلية أو يسمح بإعادتها فإننا دائماً نكون في المكان والوقت المناسبيْن".
طاقة متطوعة ...
[caption id="attachment_84175" align="alignleft" width="375"] النقيب ملحم خلف والمحافظ مروان عبود يتفقدان أعمال فرح العطاء.[/caption]اليوم بعد انفجار المرفأ، وبملخص سريع لما تقوم به جمعية "فرح العطاء" العابرة للطوائف والمناطق، يقول مارك انه في منطقتي الكرنتينا ومار مخايل اتموا اعادة الترميم لاكثر من خمسين مبنى، فضلاً عن اصلاح الشوارع وجعلها أفضل مما كانت عليه. واختيار هاتين المنطقتين تحديداً كان بديهياً، لانهما الأكثر تضرراً والأكثر خراباً في بيروت بعد الانفجار. كذلك قامت الجمعية بتغيير الزجاج في منطقتي خندق الغميق والبسطة التحتا، وأخذت على عاتقها اعادة اعمار مبنى فوج اطفاء بيروت وهيئة السير في بيروت.
وتيرة الأشغال سريعة، وكخلية نحل لا تهدأ يعمل المتطوعون، ما جعل مارك يقول إن منطقة مار مخايل ستكون انجزت مع مطلع العام الجديد، لتلحق بها منطقة الكرنتينا في حوالي آخر كانون الثاني، حيث ستسلّم نسبة كبيرة منها، لكن تبقى البيوت الاثرية. كذلك أعادت الجمعية اصلاح ما تضرر في كنيسة "سيدة النجاة" بحيث احتفل بالميلاد المجيد فيها، وهذا العمل الجبار يرتكز في كليته على متطوعين، هم بحدود الأربعة الاف ومئتي متطوع من مختلف المناطق اللبنانية، اذ ان فرح العطاء ليس لديها موظفون،"نحن بالكامل طاقة شبابية متطوعة" يؤكد مارك .
[caption id="attachment_84178" align="alignleft" width="241"] مساعدة المحتاج.[/caption]الى ذلك، فإن نشاطات متنوعة وفي العديد منها للعائلة كلها، ساهمت الجمعية في القيام بها. وقد برزت بشكل خاص في الشوارع المتضررة مع الفنانين والمغنين والعازفين والراقصين، فضلاً عن رسامين ومعارض ولوحات كانت ضرورية لبث البهجة بالعيد والأمل بالغد، واشاعة الفرح في شارع مار مخايل الذي لطالما كان رمزاً له. ولم يغب جرس بابا نويل ولا توزيعه للهدايا عن بال الجمعية ، فضلاً عن العديد من الموائد تشارك فيها الجميع اللقمة بدفء ومحبة وان كانت القلوب معصورة بالالم، والعيون غارقة بالأسى.
اما مغارة الميلاد التي نصبت في الشارع أيضاً فكانت رمزيتها كبيرة، وهدفها جذب العائلات صوبها يقول مارك، وبذلك يستعيد مار مخايل بريقه، ونحن لم نرد ان نسلمه بعد الدمار الهائل الذي لحق به الا نموذجياً ..هذا المكان الذي عمه الحزن وواكب سيل نعوش لاثنتي عشرة ضحية وقعت جراء الانفجار، ارادته الجمعية مساحة للحياة والبهجة وولادة الأمل.
والى الانشطة الميلادية والخاصة باستقبال العام الجديد، لم تغفل "فرح العطاء" تلامذة المدارس فجرى توزيع اكثر من ذلك خمسة الاف شنطة مدرسية على طلّاب المدارس الرسمية في بيروت، فضلاً عن موجودات 15 كونتينر من المواد والحصص الغذائية التي تم توزيعها على مختلف الجمعيات والمدارس والمستشفيات ولا تزال هناك حصص توضّب لتوزّع على مختلف المناطق اللبنانية، وخارج نطاق العاصمة.
شبابنا نموذج للبنان !
[caption id="attachment_84176" align="alignleft" width="371"] فرح العطاء في طرابلس.[/caption]ولما نسأل مارك عن أكثر ما تحتاج اليه الجمعية اليوم يجيبنا بلا تردد: المتطوعون. نحن بحاجة الى متطوعين ومتطوعات. فشبابنا وصبايانا على الارض يعملون بلا كلل منذ أكثر من أربعة أشهر في جهد يومي ولم يرتاحوا. شباب الجامعات والمدارس وصباياها خاصة في عطلة الاعياد مدعوون اليوم الى شبك أيديهم بأيدينا، وكذلك كل من هم من عمر السابعة عشرة حتى الخمسين او كل من يجد نفسه قادراً، ويمكنهم المساعدة في نقل الحجارة واعمال الطلاء واعمال الباطون والخشب وغيرها.
اما لدى سؤالنا له عن أكثر ما واجهوه كجمعية من صعوبات يردف مارك: لقد اخدنا على عاتقنا المنطقة الأكثر تضرراً، وهي المواجهة للمرفأ على بعد 300 متراً من موقع الانفجار، و كان الضرر بنيوياً في بعض المباني، ما اضطرنا الى هدمها بالكامل واعادة اعمارها. فقد نقلنا ما يفوق على الـ 500 بيك اب من الردم والحجارة بسبب هذه الأضرار البنيوية الكبيرة جداً. وبعد صمت قصير يقول مارك: الصعوبات أضحت خلفنا الآن، وها نحن دخلنا الى الاعمال الداخلية للشقق.
لحظة الانفجار كان مارك في منزله في عاريا، وهو يحمد الله على السلامة، ويحمده ايضاً لأنه لمس لمس اليد، عقب الانفجار الهائل ان هناك املاً بعد بهذا البلد عبر شبابه وصباياه. ويقول طربيه في هذا الصدد: شباب لبنان وصباياه اظهروا انهم لما يضعوا يدهم بايدي بعضهم ويشبكونها للاعمار والبناء، وهم من مختلف المناطق والاطياف اللبنانية فإنهم يقدمون نموذجاً للعالم كله عما يمكن ان يكون عليه هذا الوطن. حتى ان الاغتراب وضع يده بيدنا عبر متطوعين حضروا خصيصاً لمساندتنا من تسع دول مختلفة. وبالروح التي اشتغل بها الشباب والتي بثوها، لا يمكن لأية دولة او منظمة دولية او شركة اعمار ان تقوم بما قاموا به، وهذه هي الصورة التي نريدها لوطننا. اعتقد ان نموذجاً يمكن للبنان ان يقدمه
[caption id="attachment_84174" align="alignleft" width="512"] المتطوعون خلية نحل.[/caption]الى العالم كله. وصورة التعاضد هذه هي التي جعلت اجتياز هذه الازمة الكبيرة أقل صعوبة .
وعن نسب المتطوعين والمتطوعات وان كانت هذه الاعمال جذبت الذكور اكثر من الاناث، يؤكد مارك ان نسبة الصبايا تفوق الشباب بحوالي العشرة بالمئة، وهن من يشكلن الستين بالمئة من مجموع المتطوعين.
اما حول الدعم والجهات الممولة، فإنه يؤكد على المصداقية في هذا كله، بحيث تنشر صفحة الجمعية بكل شفافية ما يقومون به وما يتلقونه شرط الا يكون هذا الدعم مقروناً بدوره بأي شرط من قبل المانح .
اما عن توجيهات النقيب المؤسس لـ"فرح العطاء" المحامي ملحم خلف فإن "ظله موجود دائماً" يقول مارك الذي استلم منه سدة الرئاسة في الجمعية في حين يتفرغ خلف للنقابة ، وما اكثر امورها وشجونها في هذا الايام.
ويقول خاتماً : "كثيراً ما يطل علينا ويمدنا بخبرته وتوجيهاته".