بقلم خالد عوض
[caption id="attachment_85659" align="alignleft" width="353"] حاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة: من القمة إلى الهاوية أو إلى... الحقيقة؟[/caption]
من السهل الحكم على الناس من خلال العودة إلى التاريخ أو بعد فوات الأوان أو كما يقال بالإنكليزية "IN HINDSIGHT"، ولكن ما أصعب الحكم على أعمالهم قبل معرفة المستقبل.
منذ بضع سنين كان عنوان هذه الصفحة: "رياض سلامة: رجل العام والعقد وربع القرن الماضي". هذا الكلام إذا قيل اليوم يجر كل أنواع الشتائم. هذا مفهوم. مع أنه في حينها كان هذا الكلام لسان حال جزء كبير من اللبنانيين، خاصة أولئك الذين كانوا يجنون فوائد غير منطقية على ودائعهم.. ولكن حتى اليوم ورغم كل ما يحصل، لا يزال حاكم مصرف لبنان شاغل الناس والقضاء (اللبناني والسويسري) والوجهة الأولى لأي تحقيق جدي يريد الوصول إلى حقيقة ما حصل في لبنان منذ عام ١٩٩٣. كيف ولماذا انزلق البنك المركزي وحاكمه إلى هذا الدرك من الشبهات؟
بنك المدينة: الإشارة الأولى
تعامل رياض سلامة مع أزمة بنك المدينة عام ٢٠٠٣ وكأنه مجرد بنك متعثر. عندما "وقع" البنك نتيجة فضيحة تهريب وتبييض أموال هزت لبنان، كان كل هم حاكم البنك المركزي حماية أموال المودعين، ولكنه كان يعلم أكثر بكثير مما كان يقول، ومن خلال إنقاذ المودعين في البنك غطى بشكل غير مباشر كل المتورطين في تهريب أموال العراق إلى لبنان، إن من خلال برنامج النفط مقابل الغذاء أو من أقرباء وأصدقاء نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذين كانوا يخرجون ما أمكنهم من مال من العراق المحاصر بالعقوبات لإيداعه في البنوك اللبنانية. الكثير من هؤلاء استعان بوسطاء وربما بقياديين سوريين من أصحاب النفوذ في لبنان. كان أمام رياض سلامة فرصة الاستقالة أو فضح المسؤولين عن هذا الملف بما فيهم هؤلاء القياديين السوريين وكبار النواب والوزراء اللبنانيين. لو فعل ذلك لكان التحق على الأرجح برفيق الحريري بل ربما سبقه. اختار سلامة السلامة على الحقيقة ومعها أيضاً المحافظة على الطموح السياسي. لا شك أن إمكانية وصول حاكم مصرف لبنان إلى رئاسة الجمهورية دغدغت مشاعره وأثرت على العديد من قراراته وغض نظره على طول الطريق. ولكن عام ٢٠٠٣ لم يكن هناك أي أفق للخروج السوري من لبنان أو لوقف سيطرة محدلة النفوذ السوري ومؤيديها على السلطة. لو كان يعرف رياض سلامة أن السوريين سيخرجون من لبنان بعد أقل من سنتين على فضيحة بنك المدينة هل كان سيتعامل مع الملف الشائك لهذا المصرف بالطريقة نفسها؟ مجدداً، ما أسهل الحكم على الأحداث وصوابية القرارات بعد حصولها.
الثقة ليست...مصادفة
رغم كل ما حصل من "تنظيف" أموال أيام الحقبة السورية، ظل المجتمع المصرفي العالمي يتعامل مع لبنان ومصارفه على أنها من أكثر البنوك امتثالاً في العالم. وظل رياض سلامة يحصد الجوائز بعد الجوائز لإنجازاته رغم ظروف لبنان المعقدة بل الاستثنائية. فقد كانت الأرقام كلها تؤكد أن رياض سلامة يحقق "المعجزات". الودائع في البنوك اللبنانية واحتياطات البنك المركزي من العملات الأجنبية ارتفعت رغم احتلال إسرائيل لخمس مساحة البلد حتى عام ٢٠٠٠ ورغم الاعتداءات الإسرائيلية بعد ذلك ثم الاغتيالات السياسية والعجز المتواصل في الموازنات والتعطيل السياسي والفوضى الأمنية والفراغ الرئاسي والحكومي. حتى الأزمة المالية العالمية التي ضربت كل مصارف العالم عام ٢٠٠٨ نأى حاكم مصرف لبنان بالبنوك اللبنانية عنها من خلال تعميم منع من خلاله مصارف لبنان من الاستثمار في أي منتج له علاقة بالديون العقارية العالمية. هذا التعميم حمى النظام المصرفي اللبناني وجذب إلى لبنان أكثر من خمسين مليار دولار من الودائع الجديدة بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠١١. هناك من يقول إن ارتفاع حجم ودائع المصارف كان نتيجة طبيعية لرفع الفوائد التي كانت تثقل موازنات الدولة. ولكن لم تنفع سياسة رفع الفوائد في تركيا مثلاً أو دول أفريقية وأميركية لاتينية كثيرة. إذاً لا بد أنه كان هناك سبب آخر. هذا السبب هو الثقة بلبنان. من الجائر القول إن رياض سلامة لم تكن له أي علاقة بثقة العرب والغرب بلبنان في ظل كل الحروب والقلاقل التي كان البلد يمر بها.
الانزلاق الكبير
لم يقرأ رياض سلامة الرسالة الأميركية إلى كل المنطقة مع وصول "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض. الأميركيون اكتشفوا من خلال الحرب السورية أن حزب الله أصبح قوة عسكرية واستخباراتية حقيقية لا يستهان بها وليس فقط ميليشيا متخصصة في حروب الخنادق والشوارع، صمدت عام ٢٠٠٦ أمام قوة اسرائيل العسكرية. القرار الأميركي بمحاصرة حزب الله في لبنان كان حاسماً وتوالت مؤشراته. في المقابل كان من الواضح أن إيران وحزب الله قد اختارا المواجهة ليس فقط من خلال الإصرار على ميشال عون لرئاسة الجمهورية بل من خلال التأسيس لوجود عسكري مستدام في اليمن وسوريا والعراق. تعامل رياض سلامة مع هذا المتغير الكبير وكأنه أمر طبيعي Business as usual)) فاخترع طريقة خطيرة لجذب الودائع هذه المرة سماها هندسات مالية. يومها جازف رياض سلامة بأموال كل من ظل واثقاً بلبنان. بالنسبة للحاكم كان كل ما يهمه هو إمكانية زيادة ودائع المصارف سنوياً بأكثر من ثلاثة أضعاف عجز الموازنة. هذه المعادلة الحسابية لا يمكن التعامل معها ميكانيكياً كما فعل الحاكم. فمن دون غطاء سياسي يكملها وفي ظل تراجع الثقة بلبنان سرّعت الهندسات بالانهيار الكبير. تضاعفت مشاكل الحاكم مع العقوبات الأميركية وانكفاء دول الخليج عن لبنان من جهة الخارج ومع سلسلة الرتب والرواتب وتفاقم العجز السنوي في الداخل. ثم جاء إقفال المصارف في تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩ ليقصم ظهر ما تبقى من ثقة مالية بلبنان والباقي معروف.
المحاسبة
أين أخطأ حاكم البنك المركزي؟ هل تمادى بتغطية فساد الدولة والسياسيين اللبنانيين وهو يعرف "البئر وغطاءه"؟ هل غامر من خلال الهندسات المالية بودائع اللبنانيين؟ هل وصلت ثقته بنفسه إلى درجة الإفراط والتهور؟ ربما. ولكنه بالطبع ليس مسؤولاً عن الكثير من العيوب التي فرضها عليه النظام السياسي. لا هو مسؤول عن الاقتصاد الريعي غير المنتج أو عن الفساد المستشري في كل زاوية من إدارات الدولة ولا عن صفقات الكهرباء والاتصالات والأشغال والنفايات. ولا هو سبب الفراغ الرئاسي والحكومي أو المحرض على حادثة "قبرشمون" أو صاحب شعار "الهيلا هو". حتى سياسة تثبيت سعر الصرف لا تعود له بل هي قرار محصور بمجلس الوزراء.
ولكن إذا تبين أن رياض سلامة حول إلى خارج لبنان أي مبلغ شخصي عام ٢٠١٦ عندما كان يغري الناس بالهندسات المالية، بغض النظر عن حجم ومصدر هذا المبلغ وعن قانونية التحويل، يكون رياض سلامة على رأس قائمة المحتالين في البلد.