عندما قدم رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري لائحة توزيع الحقائب الوزارية على الطوائف الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في اول لقاء جمعهما بعد التكليف، كانت الحقائب المسماة سيادية خاضعة لتبديلات من دون حقيبة وزارة المال التي اعطيت لــ "الثنائي الشيعي" ممثلاً بالرئيس نبيه بري. وبموجب التبديل الذي اقترحه الحريري فإن وزارة الدفاع اعطيت لماروني ووزارة الداخلية والبلديات لارثوذكسي ووزارة الخارجية لسني. وانتشر الخبر كالنار وسط الهشيم ان وزارة الخارجية باتت للطائفة السنية وان من سيشغلها احد اثنين: السفير مصطفى اديب تعويضاً عن "تفشيله" في مهمة الرئيس المكلف، او الامين العام لوزارة الخارجية السفير هاني شميطلي اذا رفض اديب باعتبار ان ما يتقاضاه في منصبه الديبلوماسي في العاصمة الالمانية برلين، يتجاوز بكثير ما يمكن ان يتقاضاه من راتب في الوزارة... اما بالنسبة الى الوزارات الخدماتية الاساسية فإن التبديل كان فيها اساسياً بحيث تضمنت ورقة الحريري اعادة توزيع هذه الحقائب الخدماتية وفق توزيع طائفي جديد!.
الا ان الفترة الزمنية التي استغرقتها اجتماعات الرئيس الحريري مع الرئيس عون لتشكيل الحكومة جعلت "الفار يلعب في عب" رؤساء الحكومات السابقين المحتجبين عن الاجتماع منذ فترة. لكن التواصل في ما بينهم لم ينقطع اقله بين ثلاثة منهم هم الرؤساء نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام، وقد رأوا مجتمعين ومنفردين انه لا يجوز التخلي عن وزارة الداخلية التي يجب ان تبقى مع الطائفة السنية على اساس انها وزارة خدماتية واساسية في آن نظراً لتشعب مسؤولياتها من خلال المديريات العامة التي تشرف عليها، والتواصل المباشر مع الناخبين وطلباتهم سواء من خلال البلديات والهيئات الاختيارية، او من خلال المديريات العامة الخدماتية مثل الامن العام وقوى الامن الداخلي والدفاع المدني والاحوال الشخصية فضلاً عن الدفاع المحافظات والقائمقاميات.... وقديماً قيل ان وزير الداخلية هو "الحاكم الاداري" لكل البلاد من بابها الى محرابها!
وانطلاقاً من هذه المعطيات تحركت المداخلات مع الرئيس الحريري لاستعادة وزارة الداخلية من حصة رئيس الجمهورية وان كان هو يرغب في ان يحصل على حقيبة الخارجية لتأمين "اطلالة" له مختلفة في المحافل الدولية. وسمع الرئيس الحريري كلاماً متنوعاً من مستويات سياسية ودينية سنية معينة على خط "بيت الوسط" في محاولة لاحتواء اندفاعة الحريري، عبر الاشارة اليه حيال المخاطر السياسية المترتبة عن اي خطوة مماثلة وبأن اي تصرف مشابه قد يطال اذاه ابعد من الدائرة السياسية التي يمثلها، وقد يصل الى مستوى التسبب في إشكال امني بين جدران قوى الامن الداخلي قد تطال شظاياه حدوداً غير مسموحة طائفياً. الخشية من ذلك تأتي بفعل "النزعة العونية" تجاه اللواء عماد عثمان. اضف الى ذلك. ان "وزارة الصنائع" التي تدر ملايين الخدمات لا يجوز التفريط فيها قبل عامين من الاستحقاق الانتخابي وقبل عامين من مغادرة الرئيس عون قصر بعبدا. ثمة امر آخر يثير حساسية المستوى السني، فالداخلية منشأة امنية تحمل صفة سياسية "ركبت" على اساس انها "وزارة سيادية ذات بعد سني" بفعل التفاهمات "المبرمة من دون توقيع" بين اكثر من فريق داخلي حيال تقاسم الوزارات السيادية. بهذا المعنى، قد تتحول الوزارة الى "جبهة اشتباك نارية" بين مكون ثابت وراسخ وآخر وافد حديثاً بنزعة تغييرية، بما سيحول الوزارة الى ركام في النتيجة....
الحريري تراجع
وتورد جهات اخرى اسباباً اضافية منها ان وضع الوزارات ذات التصنيف الامني في حضن رئيس الجمهورية يؤسس الى "حالات" داخل المؤسسات الامنية لا يعود من الممكن ضبطها خصوصاً في السنتين الاخيرتين من العهد مع خوف من استعمالها لاعتبارات سياسية رئاسية، فضلا عن الخدمات التي يمكن الحصول عليها من وزارة الداخلية، ولا تتوافر مطلقاً في وزارة الخارجية. والواقع ان الرئيس الحريري ظل لفترة محدودة يتجاهل كل "النصائح" التي قيلت له حتى ادرك اخيراً ان توسيع اطار الاعتراض على اي خطوة قد يقوم بها من هذا الوزن، يحتمل ان يكلفه غالياً على مستوى الحضور والعلاقات السياسية في محيطه، وثمة من نصحه ان تشدده، قد يمنح "الشركاء الاعداء" مادة دسمة للحرتقة عليه من زاوية الاتهام السابق: "التفريط بحقوق السنة" لاسيما وان كافة المؤشرات باتت تجمع على ان علاقة الحريري مع شخصية رئاسية سنية سابقة على الاقل تعيش مرحلة اهتزاز في النتيجة، توصل الحريري الى استنتاج مبدئي بضرورة التخلي عن طلبه والبدء بمرحلة التراجع عن الخطأ.
وهنا بدأت المهمة الصعبة وهي كيفية ابلاغ الرئيس عون انه تراجع عن التوزيع الاول للوزارات كما قدمه اليه، ويرغب في استرجاع الداخلية الى الحصة السنية، فتحرك من فرضيتين، الاولى محاولة الاتفاق مع رئيس الجمهورية على ان يتولى هو تسمية الوزير المسيحي الذي سيتولى الوزارة، والثانية ان يتفاهم مع الرئيس عون على اسم الوزير العتيد.... عملياً لم تصل اي من الفرضيتين الى خواتيم سعيدة، فالرئيس عون رفض تغيير ما تم الاتفاق عليه في السابق متمسكاً بوزارة الداخلية من جهة، وبحقه في تسمية الوزير الذي سيتولاها خصوصاً انه كان قد ابلغ الحريري عن اسمه وهو ضابط متقاعد في قوى الامن الداخلي مشهود له بالمناقبية والاستقامة ونظافة الكف والسمعة....
وخلال الاجتماع الذي ضم الرئيسين عون والحريري الذي انعقد قبل ساعة ونصف الساعة من صدور الاعلان الاميركي عن فرض عقوبات على رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، حاول الرئيس الحريري "استرداد وزارة الداخلية الى الكنف السني مقترحاً اعادة توزيع الحقائب السيادية على طوائف غير رئيسية، الا ان رئيس الجمهورية تمسك بالداخلية مقترحاً ان تصبح الخارجية من نصيب الرئيس الحريري يختار لها من يراه مناسباً للمرحلة المقبلة التي ستكون حافلة بالتواصل مع الدول والمنظمات الدولية والاقليمية، وانقضى الاجتماع على اساس ان الامر سيبحث من جديد....
في اي حال، وبصرف النظر عمن ستؤول اليه وزارة الداخلية والبلديات، فإن ثمة وزير حال هو العميد محمد فهمي الذي ينتظر بفارغ الصبر خروجه من الصنائع (حيث مقر الوزارة) وهو حال زملاء له في حكومة الرئيس حسان دياب الذين ينتظرون الخروج من "سجن" السرايا الحكومية وهم يتفرجون على حال المأساة التي وصلت اليها مؤسسات الدولة التي تبدو في الشكل اشبه بعروس جميلة لكن سرطان الفساد نخر عظامها ولم تعد قادرة على الصمود اكثر، ولاسيما اذا تأخر المعنيون في تأليف الحكومة وانطلاقتها. وبات في حكم المؤكد ان حكومة تصريف الاعمال غير قادرة علىى العمل نتيجة وجود جملة من الضغوط والتحديات. وهي لم تتفق على رؤية واحدة في الكثير من القضايا التي تعصف بلبنان حالياً....