لا يُمكن لزائر عرسال في هذه الفترة الا ان يخرج منها بانطباع وحيد وهو ان البلدة تحولت الى ما يُشبه ثكنة عسكرية حيث تتوزع في داخلها وعند أطرافها حشود عسكرية مؤللة للجيش اللبناني، بينما تتمركز الجماعات المسلحة في جرودها التي تُشكل بالنسبة اليها منطلقاً للهجمات التي تستهدف من خلالها بشكل يومي أفراد وآليات الجيش، بالإضافة الى ابناء البلدة ومنازلهم والتي كان آخرها استهداف كسّارة وسرق <جرّافة> جرى سحبها باتجاه الجرود.
تصل أخبار الجماعات المسلحة المنتشرة في جرود عرسال الى أبناء البلدة بالتواتر نقلاً عن فلان وفلان ما يعني ان لا أخبار مؤكدة تصلهم حول نيات هذه الجماعات المستقبلية، وما اذا كان من ضمنها الاعتداء مرّة جديدة على البلدة والآمنين فيها أو على مراكز تابعة للجيش اللبناني والقوى الأمنية، وهذا ما يجعلهم دائماً في حيرة من أمرهم فهم لا يعرفون متى تحين ساعة الصفر ليتحدد مصيرهم، وهم العالمون يقيناً انهم في طليعة المتضررين وأن حياتهم قد أصبحت على كف عفريت كحال البلد لدرجة أن معظمهم يتمنى لو تُبقي الشمس نورها فوق السلسلة الشرقية كي لا يأتي الليل ويزرع الرعب والخوف في قلوب الاطفال.
ما من عرسالي واحد إلا ويُبدي تعاطفه مع الجيش أو القوى الأمنية. آمال كبيرة يعلقها <العراسلة> على وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق وعلى الدور المكلف به المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم لتحرير المخطوفين. وفي الوقت عينه يدعون الدولة اللبنانية بسياسييها للتحرك أكثر على هذا الخط حتى لو كلفهم الأمر إخراج جميع الموقوفين في سجون الدولة، فبرأيهم إن خسر لبنان هؤلاء العسكريين فلن يتبقى لنا شيء آخر نبكي عليه سوى هيبة الدولة.
قطر تدخل على خط الوساطة
وكعادته وعند مواجهته أي مطب أو أزمة لجأ لبنان مؤخراً الى دولة قطر الشقيقة للاستنجاد بها من أجل اطلاق سراح المخطوفين وحل هذه القضية بأقل الاضرار الممكنة والتي يُمكن ان تحفظ للدولة بعض ما تبقى من هيبة، وكما ساعدت قطر في حل أزمة ما عُرف بمخطوفي اعزاز وإنهاء ملف الراهبات السوريات اللواتي اختطفن من دير معلولا في سوريا، عادت بالامس وتحركت على خط جرود عرسال حيث التقى وفد منها بممثلين عن جبهة <النصرة> في القلمون وعادوا بوعود تتعلق بتجميد أية محاولة للمس بحياة أي من العسكريين الثلاثة عشر الذين تحتجزهم. وقد علمت <الأفكار> أن الوعود هذه جاءت بعدما حمّلت الجهة الخاطفة الوفد القطري مجموعة مطالب منها: دفع مبلغ معين للخاطفين وأن تبادر السلطات القضائية اللبنانية إلى تسريع محاكمات الإسلاميين في سجن روميه مع تخفيف ما أمكن من الأحكام بحق غير المتورطين في قضايا جنائية.
كما تواصل الوفد القطري بطريقة غير مباشرة مع ممثلين عن تنظيم <داعش> الذي يحتجز خمسة عشرعسكرياً ودركياً على الأقل، وهنا تقول المعلومات ان التواصل هذا أفضى الى إزالة العقبات حول حصول لقاء مباشر بين الطرفين خلال الايام الآتية للاتفاق حول الآلية التي ستتبع للافراج عن المخطوفين مع وعود حصل عليها الوفد تقتضي عدم المس بالعسكريين.
وضمن برنامج الاتكال على الدول الذي تعتمده الدولة اللبنانية في كل مرة تواجه فيها أزمات مشابهة لملف العسكريين المخطوفين، توجه نهاية الاسبوع الماضي رئيس الحكومة تمام سلام مع أربعة من وزراء حكومته إضافة الى اللواء عباس ابراهيم الى العاصمة القطرية الدوحة للقاء المسؤولين السياسيين والوقوف عند اخر التطورات المتعلقة بالملف، وقد لفت سلام في حديث له من دولة قطر الى ان قضية العسكريين المخطوفين قيد المتابعة الحثيثة من قبل الجميع وهي بحاجة الى مساعدة ومساعي جميع الاطراف، ولا سيما دولة قطر الشقيقة لما لها من تجارب سابقة في هذا المجال. <وقد جئنا إلى قطر لشكرها على مساعدتها في الماضي والحاضر والمستقبل، فقطر بلد عربي لنا علاقة قديمة معها، وبالتالي نحن حريصون على تمتينها وتعزيزها في كل مناسبة وفرصة>. وتابع: اليوم هناك وضع يستوجب التشاور مع كل إخواننا العرب ونحاول بما تسمح به الظروف ان نزور دولة بعد دولة. وان احتضان قطر للبنانيين واهتمامها بهم هو أمر يوجب علينا ان نكون دائماً على تواصل بخاصة أن هناك قضايا مرحلية تمر علينا وعلى المنطقة توجب التشاور والاطلاع، وبما أن لقطر دوراً مميزاً ونشطاً وفاعلاً في مختلف الأوساط العربية والدولية والإقليمية، واليوم بالذات هناك موضوع تسعى قطر لمساعدتنا فيه وهو الموضوع المستجد على أثر المواجهة مع الإرهاب في عرسال والذي نتج عنه الواقع المتمثل بعسكريينا المخطوفين والذي يحتاج إلى مساعي بمختلف الوسائل والطرق للإفراج عنهم.
شروط تعجيزية للخاطفين
من جهته أكد المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم انه لم يزر قطر في اليومين الماضيين وإنما زار تركيا قبل أيام وأن قطر تلعب دور الوسيط وهناك شروط تعجيزية لدى الخاطفين، لكن نستطيع القول ان الدولاب بدأ يتحرك انما ببطء، مشيراً الى ان لكل من <جبهة النصرة> و<داعش> شروطاً مختلفة ولا يوجد تنسيق بينهما ما يصعب المفاوضات، وهناك من يضع الشروط من خارج القلمون والشخصية السورية ما زالت تقوم بالوساطة. وقال: إن الشيخ مصطفى الحجيري جمد تحركاته في قضية العسكريين الأسرى لكن هناك أموراً ايجابية ستحدث على المستوى السياسي من شأنها ان تخفف الاحتقان المذهبي. وأنهى حديثه قائلاً: القرار الدولي ربما يكون موجوداً لتفجير الوضع في لبنان انما الأهم ان لا ارادة داخلية لذلك.
الشيخ الحجيري: كل العسكريين بخير
لا يمكن دخول عرسال من دون التواصل مع الشخص الاكثر إثارة للجدل في هذا الوقت ونقصد هنا الشيخ مصطفى الحجيري أو <ابو طاقية> كما يُسميه البعض.
الرجل متهم بأنواع عديدة من القضايا التي تمس أمن الدولة وهيبتها وبأنه يقف ومن خلال مجموعات تعمل تحت إمرته وراء اعتداءات متكررة على الجيش اللبناني ووراء إصدار فتوى بقتل الرائد الشهيد بيار بشعلاني في عرسال وجرم الانتماء الى جهات مسلحة تعمل لإسقاط الدولة اللبنانية وغيرها من القضايا والتي أدت الى إصدار العديد من مذكرات التوقيف بحقه.
بداية لم يرد الحجيري التعليق حول كل ما ذكر. فبالنسبة اليه لا يوجد دليل واحد يدينه في كل ما ورد، وهو يعتبر نفسه مظلوماً في كل ما يوجه اليه من تهم. أما في الشق المتعلق بقضية العسكريين المخطوفين فيقول: أولاً يبدو ان هناك أطرافاً سياسية لا تريد حل هذا الموضوع ومن هنا يجب على الدولة والحكومة اتخاذ القرار الجريء لانقاذ العسكريين. فلماذا مثلاً لا تأخذ الدولة اللبنانية القرار بهذا الموضوع، ولماذا تنتظر الشقيق القطري كي يفاوض عنها. فهذا الملف دقيق وحساس ويجب ان يتم إبعاده عن الاعلام، لأن بعض الاعلام يستغلّ بعض المعطيات للنفخ فيها بما لا يخدم هذه القضية والهدف الرئيسي الذي نعمل عليه اي إعادة كل العسكريين سالمين الى ذويهم خصوصاً وان ابواب التفاوض لم تغلق نهائياً ونرفض القول ان المنافذ سُدت لأن الأمور ما زالت تسير ونأمل ان يعود العسكريون سالمين في اقرب وقت، وليس بالضرورة ان يعودوا دفعة واحدة>.
وعن هذه الحادثة هذه يقول الحجيري: لقد قررت في الوقت الراهن توقيف المساعي لاطلاق العسكريين الرهائن وقررت ملازمة منزلي وعدم التدخل في القضية بعدما تعرضت لإطلاق نار لدى عودتي من زيارة احد الجنود الرهائن مع عائلته، مضيفاً: لم يعد لي أي علاقة بهذه القضية، فأنا مهدد بالاغتيال من جماعات معروفة لا تريد إنهاء الملف وطويه، مع العلم انه وبعيد محاولة الاغتيال لم يكلف اي شخص نفسه الاتصال بي والاطمئنان عني حتى بمن فيهم أهل الجندي الذين عرضت حياتي للخطر من أجلهم واصطحبتهم لزيارة ابنهم المخطوف.وحول اللقاء الذي جمع والدة الجندي الاسير جورج خوري وشقيقته في جرود عرسال برفقة الشيخ الحجيري وتعرضهم لإطلاق نار أثناء عودتهم، فقد أوضح أحد وجهاء البلدة لـ<الافكار> أن اطلاق النار على سيارتين من نوع <بيك آب> عائدتين للحجيري، حصل عن طريق الخطأ من قبل عناصر تابعة للجيش اللبناني بعدما ظنت هذه الأخيرة ان السيارتين هما للجماعات المسلحة خصوصاً وان الجيش لم يكن على علم مسبق بالمبادرة فاعتقد انهم مسلحون، لكن الاتصالات التي أجريت مع قيادة الجيش لاحقاً أفضت إلى تأمين عودتهم سالمين.
وحول علاقته بالجهات الخاطفة والامكنة التي يلتقون بها يوضح الحجيري ان المسلحين هم من يقررون موعد ومكان اللقاء، فهم يتصلون بي عن طريق شخص مزود برقم هاتفي. أما عن علاقتي بـ<جبهة النصرة> فهي لا تتعدى موضوع العسكريين المخطوفين، واذا كان المطلوب ايقاف هذه الجهود فأنا مستعد لتوقيفها في الحال، سائلاً: أين الجريمة التي ارتكبتها إذا حرّرت جنوداً مخطوفين؟ علماً ان الموفد القطري قد اقترح أن أكون وسيطاً في المفاوضات بينه وبين تنظيم <داعش>، إلا أن قيادة التنظيم رفضت لأنها تعتبر أنني شخص غير مرغوب فيه.
ودعا الحجيري الى التوقف الفوري عن عمليات الاعتداء التي تطاول النازحين السوريين لأنها تعقّد وتعرقل إنجاز ملف الجنود المخطوفين، خصوصاً وأننا في مرحلة أحوج ما نكون فيها لتوفير مناخ اطمئنان والبحث عن ثغرة بسيطة لنجد ما يضيف شيئاً من الامل الى الاهالي، مؤكداً انه قد يعود للعمل على خط التفاوض مجدداً في حال طلب منه الأمر بشكل رسمي أو من قبل أهالي المخطوفين الذين هم أصحاب القضية الاساس، وأؤكد للمرة المئة أن العسكريين المحتجزين لدى جبهة <النصرة> جميعهم سالمين ونعمل على إطلاقهم جميعاً، وما من وساطة خاصة بفرد أو بأشخاص محددين.
ما حقيقة المفاوضات بين حزب الله و<داعش>؟
في علم السياسة تبقى كل الاحتمالات مفتوحة حيث لا محرمات تمنع اللقاءات أو عمليات التفاوض بين الخصوم، فالماضي والحاضر يشهدان على الكثير من المفاوضات التي جرت بين الجيوش وعمليات لتبادل الأسرى وآخرها تلك التي حصلت بين حزب الله والجيش الإسرائيلي أو بين الاخير وحركة <حماس>. وفي اطار هذا النوع من عمليات التفاوض فقد علمت <الأفكار> من مصادر خاصة ان لقاء عقد منذ فترة وجيزة بين مسؤول ميداني في حزب الله وآخر من <داعش> في مكان ما في جبال القلمون، وذلك بطلب من الاخير وان اللقاء حصل بعد إلحاح <داعشي> استمر لاكثر من شهر وتحديداً يوم جرى التفاوض على جثث قتلى وبعض الاسرى كانوا وقعوا من الجهتين في المعركة التي سبقت معركة عرسال الاخيرة.
ووفق المصادر نفسها فإن طلبات <داعش> تركزت حول منحها بلدة في قرى القلمون لإيواء المقاتلين ومعهم عدد من الاهالي والاطفال كانوا نزحوا من تلك القرى الى الجرود عقب سيطرة الحزب على القلمون وذلك قبل حلول الشتاء وإلا سيكون مصيرهم الموت تجمداً من البرد ان على السهول أو داخل المغاور خصوصاً وأن القلمون معروفة بشدة الصقيع وبغزارة الثلوج التي تتساقط عليها في الشتاء وذلك مقابل توقيف الهجمات التي يشنها التنظيم بشكل متواصل على الحزب الى ان تحصل عملية تسوية اقليمية أو بين الجهتين. وقد طلب القيادي في <داعش> ان تكون بلدة يبرود المكان الذي يمكنهم اللجوء اليه كونه يوفر ضمانة الى حد ما للحزب والنظام السوري باعتبارها بلدة محاصرة من الجهات الاربع ولا يُمكن الدخول اليها الا تحت اشرافهما والسماح للأهالي بالتزود بالمؤن الغذائية والتدفئة.
وتضيف المصادر أن قيادي الحزب طلب بعض الوقت لعرض الصفقة على قيادته واتفق الطرفان على معاودة اللقاء بينهما وهو ما لم يحصل لغاية اليوم وذلك بعدما رفضت قيادة الحزب العرض تاركة الامور تسير بشكلها الطبيعي. وهنا تعتبر المصادر ان رفض الحزب التفاوض بهذا الخصوص ورفض منح هؤلاء المسلحين مكاناً لإيوائهم سوف يُزيد الامور تعقيداً وسينعكس بالتالي على الوضع في عرسال التي تُعتبر منفذهم الوحيد للحصول على التموين الذي يحتاجونه من داخل البلدة ما يؤشر الى احتمال عودة التصعيد العسكري مجدداً على تلك الجبهة.
وليس بعيداً عن هموم البلد والتخبط الحكومي الذي يجري، تتزايد على الارض هموم أخرى تُضاف الى الأزمات العالقة. ففي ساحة الشهداء في وسط بيروت نصب عدد من اهالي العسكريين المفقودين من عكار خيامهم وتعاهدوا بعدم الخروج من تلك المساحة الضيقة التي تُشبه حدود مساحة البلد الا وقد فُكّ أسر آخر جندي مفقود والشيعي والدرزي والمسيحي قبل السني.
لدى اقترابك من مكان الاعتصام تقابلك لافتات متعددة. <باقون الى حين تحرير أسرانا>، وتقابلك ايضاً ابتسامة الطفل مقبل ابن الثلاثة اعوام وهو ابن الجندي المخطوف خالد مقبل حسن ابن بلدة فنيدق العكارية وهو يحمل صورة والده يقبلها حيناً ويتحدث معها احياناً..
وبدورها تقول زوجة الجندي خالد حسن انها كانت تتحدث الى زوجها قبل نصف ساعة تقريباً من اختطافه وكان يحدثها عن صعوبة الوضع في عرسال وعن الارهابيين الذين كانوا يمرون من أمام عينيه وعيون رفاقه في الوحدة من دون ان يتمكنوا من اطلاق نيرانهم باتجاههم نظراً لعدم وجود الأوامر. وتدمع عيون زوجة خالد عندما تتذكر حنان زوجها وعطفه على عائلته وأهله < شاب بيسوى الدنيا كلها والله، الله لا يسامحهم اذا بيعملو فيه شي>. وهنا تتدخل شقيقة خالد لتقول: قمت بوضع تسجيل صوتي قديم يعود لشقيقي على هاتفي الخاص، واحياناً اقول لمقبل <تعال وتحدث الى والدك>، لكنه بات يدرك ما يحصل كون التسجيل هو نفسه في كل مرة ولذلك يقول: <بدي بابا مظبوط مش حكي>. وأكثر ما يزعج الزوجة هو استيقاظ ابنها وبنتها أثناء الليل وهم يصرخان وينادان والدهما.
ولا تختلف الامور من عائلة الجندي خالد حسن الى عائلة الجندي المخطوف ابراهيم مغيط فاللوعة واحدة والهموم ذاتها. تقول والدة مغيط: نحن مع المفاوضات بأسرع وقت قبل أن نخسر جندياً ثالثاً يضاف الى الشهيدين علي السيد وعباس مدلج، ومثلما عمل المعنيون على مفاوضات في ملف أعزاز وراهبات معلولا، يجب المباشرة بأسرع وقت والدخول في مفاوضات أياً يكن الثمن. نحن أولادنا بخطر وعلى الدولة أن تقدر حجم هذا الخطر وتقوم بواجبها خصوصاً وأن لا أهداف سياسية لدينا وكل ما نريده أن يرجع أبناءنا الذين ذهبوا لحماية الوطن فأصبحوا بحاجة الى من يحميهم.