تفاصيل الخبر

ودائع اللبنانيين لن تعود.... إلا بشرط واحد!

07/02/2020
ودائع اللبنانيين لن تعود.... إلا بشرط واحد!

ودائع اللبنانيين لن تعود.... إلا بشرط واحد!

بقلم خالد عوض

السؤال الذي يقلق كل اللبنانيين اليوم هو: ما مصير الودائع في البنوك؟ هل تبخر جنى العمر بهذه البساطة؟ هل يمكن أن يكون النظام المصرفي اللبناني بهذه الهشاشة وهو الذي ذاع صيته في العالم لمتانته وإنضباطيته ومعايير الحوكمة المتميزة التي كان يتمتع بها؟ وكيف يمكن لحاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة الذي كان ينال كل المديح والتقدير ويحصد الجوائز الواحدة تلو الأخرى عن أفضل حاكم مركزي في العالم العربي أن يكون بهذا العجز وقلة الحيلة؟ ألم يقل مرات ومرات واخرها منذ شهور غير بعيدة أن سعر صرف الليرة لن يتغير وأن الذين يراهنون على ذلك سيخسرون؟ هذه الأسئلة اليوم تحير الناس وعندما يسمعون الخبراء الإقتصاديين يحتارون أكثر، حتى أصبح كلام <ميشال حايك> و<ليلى عبد اللطيف> أكثر تطمينا ووضوحا. أين الحقيقة إذاً في مسألة سلامة الودائع؟

معادلة رياض سلامة... <السحرية>!

من المعروف أن سياسة حاكم مصرف لبنان لتثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي كانت قائمة على معادلة أساسية: أن تزيد الودائع في البنوك اللبنانية سنويا بنسبة لا تقل عن ثلاثة أضعاف العجز السنوي للموازنة. مثلا إذا كان العجز السنوي ٤ مليارات دولار فلا بد للودائع في المصارف أن تزيد حوالى ١٢ مليار دولار في السنة حتى تستمر القدرة على تمويل الدولة. هذه المعادلة <السحرية> سمحت للبنان بتخطي كل المشاكل السياسية والأمنية وحتى الإقتصادية وفي أصعب الظروف. كان الحاكم يستخدم من جهة سلاح الفائدة لجذب الرساميل الجديدة وتأمين تدفق الأموال إلى البلد، وفي المقابل يحث الحكومة وخصوصا وزراء المال على ضبط العجز. وكان يعتمد على أمرين اساسيين في ذلك: أولا سمعة لبنان المالية على مدى التاريخ إذ لم تتخلف الدولة اللبنانية يوما عن تسديد مستحقاتها في الأسواق المالية حتى في أحلك الظروف، وثانيا سمعة المصارف اللبنانية والمستوى العالي والسباق في الامتثال (Compliance) بكل القوانين المالية الدولية وتطبيقات الحوكمة وخاصة مقررات اتفاقيات <بازل>. وقد استطاع الحاكم فصل المسار السياسي وحتى الإقتصادي عن الحالة النقدية وأصبحت الليرة نائية إلى حد كبير عن كل الخلافات الداخلية. عمليا نجح الحاكم حتى أول عام ٢٠١٦ في المحافظة على هذا <الستاتيكو> ولكنه نظريا وفعليا كان يشتري الوقت على أمل أن يستعيد الإقتصاد اللبناني زخمه فيخف العجز وتتراجع الحاجة التمويلية من الودائع البنكية.

 

تفجير المعادلة... من الداخل والخارج!

عام ٢٠١٦ حصلت عدة أمور في وقت واحد أربكت معادلة حاكم مصرف لبنان. إنهارت أسعار النفط. تعقدت حرب اليمن وأثرت على الإقتصادات الخليجية كلها. بدأت الفوائد على الدولار بالإرتفاع لأول مرة منذ ٢٠٠٧. وقع لبنان في فراغ كبير على مستوى رئاسة الجمهورية. أدرك الحاكم حينها أن الوقت ليس لصالح معادلته فلجأ إلى الهندسة المالية الأولى حتى يزيد من احتياطه من العملات الأجنبية ويتحيط لأي خطر من المضاربة على الليرة أو من عدم القدرة على تمويل عجز الدولة. كلفة هذه الهندسة كانت كبيرة ليس فقط من حيث الفوائد المرتفعة التي تكبدتها الدولة اللبنانية بل لأنها سحبت الأموال من السوق وجعلت البنوك اللبنانية تطمع بأرباح كبيرة تفوق نسبتها ما تحققه أفضل البنوك في العالم. أدى ذلك إلى إستحالة تمويل الإقتصاد نظرا لكلفة الفوائد، ودخل البلد كله والكثير من اللبنانيين والأجانب في لعبة الهندسة المالية التي زادت إحتياطي البنك المركزي بحوالى ١١ مليار دولار. كان رياض سلامة يومها يغامر بجد ويعتمد على عاملين جديدين آخرين: الأول هو <وعد> الغاز في البحر، والثاني هو حجم العجز الذي كان لا يزال ممكنا تمويله.

في عام ٢٠١٧ ورغم التسوية الرئاسية حصل أمران ضربا كل حسابات الحاكم. الأول هو سلسلة الرتب والرواتب التي قصمت ظهر الموازنة وزادت العجز بأكثر من ٥٠ بالمئة. والثاني استقالة الرئيس الحريري من السعودية التي أشارت بوضوح إلى نوع من الطلاق بين السعودية والخليج عموما من جهة ولبنان من جهة اخرى. ولكن الحاكم لم يرفع الصوت يومها على السياسيين المتلهين بأتفه الخلافات، وهنا خطيئته الكبيرة، وظل يراهن على الفرج الممكن، هذه المرة من خلال مؤتمر <سيدر> وأمواله الموعودة.

العين بصيرة ويد الحاكم ... قصيرة!

 

عام ٢٠١٨ حصل أمر جديد أوقع معادلة رياض سلامة بالضربة القاضية. في ايار (مايو) من هذا العام انسحبت الولايات المتحدة من الإتفاق النووي مع إيران وقررت المواجهة المباشرة معها في كل مكان بما فيها العراق و... لبنان. هذا التحول في سياسة الإدارة الأميركية في المنطقة يعني ليس فقط وقف تدفق الأموال إلى لبنان بل الدعوة غير المباشرة إلى هروب الأموال منه ومن كل نقطة فيها وجود ما لإيران. فإلى جانب المشاكل العضوية والهيكلية في المالية اللبنانية جاءت هذه الإشارة السياسية لتؤكد أن الحرب على إيران وحزب الله لن تستثني الإقتصاد اللبناني وانعكس كل ذلك على تصنيف لبنان الذي تراجع بسرعة. ومع تأخر <سيدر> حاول الحاكم شراء الوقت مجددا وبكلفة باهظة جدا عن طريق هندسة مالية أخرى في الربع الثاني من عام ٢٠١٩، ولكن هذه الهندسة رغم جاذبيتها لم تدر إلا حفنة من المليارات كانت أقل بكثير مما خرج من لبنان مع بداية ٢٠١٩.

 

أين الودائع؟

هذا هو السؤال الكبير اليوم. الودائع (١٧٠ مليار دولار) انفقتها الدولة (أكثر من ٩٠ مليار دولار دين عام للمصارف أي المودعين على الدولة) والقطاع الخاص (أكثر من ٥٠ مليار دولار) والباقي (حوالى ٣٠ مليار دولار) إحتياطي لدى مصرف لبنان. إعادتها لن تكون إلا بإستعادة الدولة قدرتها على نمو وارداتها والقطاع الخاص قدرته على إستعادة عافيته. حتى يحصل الأمران لن تكفي الضرائب ولا التقشف بل لا بد من نمو إقتصادي قوي (أكثر من ٥ بالمئة) وعلى مدى سنتين متتاليتين على الأقل حتى يتغير المزاج الإقتصادي في البلد وتعود الدورة المالية إلى الإنتظام. وحتى يتحقق النمو لا بد من إستقرار سياسي وأمني وهذا ليس في المنظور.

بإختصار لا إمكانية لعودة الودائع إلى اصحابها من دون عودة الإقتصاد اللبناني إلى عافيته. فقط إذا عاد الإقتصاد تعود الودائع.