تفاصيل الخبر

نـصـــــوِّت حــــــيـث نُدفــــــــن

21/04/2016
نـصـــــوِّت حــــــيـث نُدفــــــــن

نـصـــــوِّت حــــــيـث نُدفــــــــن

 

بقلم سعيد غريب

SAM_5208 

يروي الوزير الراحل فؤاد بطرس في كتابه <المذكرات> قصة لقائه الأول مع الرئيس فؤاد شهاب في القصر الجمهوري في جونية عام 1959، وتذكّر كلاماً قاله له في نهاية ذلك اليوم الطويل، <لن أنساه ما حييت>.

<عندما كنت قائداً للجيش، مكثت سنوات عديدة على الشرفة أراقب كل ما يجري، لقد اطّلعت على أمور كثيرة ولم يخفَ عليّ شيء، وأعرف الكثير عن اللعبة السياسية، ويمكنني تقييم رجال السياسة جميعاً لأنني راقبتهم وعرفتهم جيداً. وما رأيته أزعجني وزرع في داخلي خوفاً كبيراً على مصير هذا البلد ومستقبله. سأقول لك أمراً: <نحن لم نتمكّن بعد من بناء وطن بمعنى أمة، يجب أن نسعى الى إنشاء دولة سليمة، حتى إذا تمكّنا من ضمّ اللبنانيين إليها، يصبح ممكناً أن نرتقي الى وطن، أريد منكم أن تساعدوني لإقامة دولة بالمعنى الصحيح>.

وفي معرض حديثه عن أهل السياسة ووضع الإدارات الرسمية قال: <في لبنان المصلحة الخاصة والفساد والمراوغة والإقطاع، أمور مستشرية جداً بحيث بات من الصعب على المرء إيجاد شخص خلوق ونظيف الكفّ لكي يوليه المسؤولية...>، ثم أردف: <لحسن الحظ، لدينا قطار في لبنان، وأظنه الشيء الوحيد الذي يسير بشكلٍ مستقيم في هذا البلد..>.

نترحّم اليوم على فؤاد شهاب وفؤاد بطرس والقطار الذي نفتقد لفؤاده واستقامته، ونتذكّر ما قاله فؤاد شهاب لفؤاد بطرس قبل سبعة وخمسين عاماً ونردّده كما لو قاله اليوم..

اليوم، وفي غمرة المشاكل التي يتخبّط فيها <الوطن> وفي مقدّمها الفراغ في المؤسسات، يستعد اللبنانيون لانتخابات بلدية، قد تحصل وقد لا تحصل، وبهم شوق ملحّ لأن يروا من خلالها ضوءاً يأخذهم الى الخلاص..

سيخوضون هذا الاستحقاق البلدي الديموقراطي العائلي وعلى رأسهم <كبار> النافذين وزعامات من خارج مناطقهم وقراهم وحتى مدنهم..

هؤلاء <الكبار> سيخوضونها عنهم وبأساليب فوقية، كيف؟ باختيارهم الأقوياء في مناطقهم بل بتبنيهم لهم، وقطفهم النتائج والنجاحات!

فعلى سبيل المثال لا الحصر، ما دخل الزعامات غير الكاثوليكية وهي من خارج زحلة، بزحلة عاصمة الكثلكة في الشرق؟! ألا يجدر بأهلها الاختيار والتقرير من دون ضغوط أو حسابات سياسية ضيّقة؟.

إن الديموقراطية في الانتخابات تعني ضرورة معرفة الناخبين ما هو المتوافر عندهم من برامج وشخصيات ورؤى مستقبلية للمرشحين تسمح للناخب بأن يعرف كل شيء وبأن يكون حراً في اختيار البرنامج.

ثم، هل يخوض اللبنانيون الانتخاب وفق قانون عادل يضمن صحة التمثيل؟

وهل تستقيم انتخابات في بلد ما إذا لم يعرف المواطنون، على الأقل عن طريق الصحافة والإعلام، ماذا يعني <الانتخاب>؟ والمعرفة واجبة قبل موعد الانتخابات المقصودة وفي أثنائها..

ما هو معروف، أن معظم الناخبين لا يصوّتون حيث يسكنون، وهذه حقيقة بحد ذاتها علّة أساسية.

وما هو معروف أيضاً، ان المجالس البلدية في معظمها قد لا تعير مناطقها اي اهتمام يُذكر، باعتبار أن ساكنيها من غير الناخبين.

وما نفع أن ينتخب المواطن مجلساً بلدياً في ضيعة هجرها منذ زمن، لا يزورها إلا في المناسبات أو ليرقد فيها.

المواطن يريد أن ينتخب لا أن يصوّت للذين لهم طعم ولون وشكل، للذين يخدمون قريتهم وينهضون بها، ويريد أن ينتخب في مكانين، حيث يقيم وحيث ينتمي، أي حيث السكن الحالي وحيث سكن أجداده وأجداد أجداده  - فهو يهتم للمكانين على حد سواء ويريد الاعتناء بالاثنين معاً، وأن يشعر المنتخَب (بفتح الخاء) أنه ملزم بجميع سكان بلدته أو مدينته، أن يفلش الزفت للأصيل والمقيم، أن يغرس الأشجار للاثنين معاً، أن يَعدِل في جمع المشاريع للإثنين معاً، أن تكون مصلحته في خدمة الاثنين معاً.. إن المواطن لم يعد يريد أمراء يريدون تجيير الإجماع لمصلحة سياساتهم وتصويره على أنه انتصار لفريق وهزيمة لفريق آخر.

إن الناس تعرف ان اشتراك الأمراء في الانتخابات لا يعني الاشتراك معها بل الاشتراك ضد الأمراء الآخرين، وإجماعهم ما هو إلا وجهان لعملة واحدة.

وإذا كانت الحرب اللبنانية، ونحن في زمن نيسان، زمن ذكراها الأليمة، قد حققت إنجازاً وحيداً، فهو إنجاز إفقار رعايا الأمراء بعدما كانوا قبل الحرب قد بدأوا ينفضّون من حولهم أو بعدما كان أمراء الحرب قبل الحرب قد أصبحوا فقراء السلام. فقد كان الشعب اللبناني قبل الحرب متحرّراً أو شبه متحرّر على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، أدخلوه الحرب ومعظمه أكثر راحة من الأمراء القدامى والجدد..

إن التجربة الديموقراطية أصبحت بعد الحرب تحت التجربة اليائسة في معظم الحالات، وفي الجو الداخلي حديث مكتوم عن إمكانية الاضطرار الى تأجيل الانتخابات البلدية.

ولكن، سنتصرف على أساس أنها حاصلة غداً ونطرح بضعة أسئلة:

- هل ينتفض اللبنانيون لكرامتهم وديموقراطيتهم فيحسنوا الخيار والاختيار بعيداً عن النكايات والرهانات الخاسرة؟

- هل سيتمكّنون من تعديل القانون <العجيب> ليصبح في الإمكان التصويت في مكان السكن لا حيث يُدفنون فقط؟

- هل سيتوجّهون الى صناديق الاقتراع من أجل الانتخاب لا التصويت فقط؟

- هل سنسعى بعد تجربة طويلة ومرّة الى إنشاء دولة سليمة، لكي نتمكّن من بناء وطن بمعنى أمة؟

الأحلام يمكن أن تتحقّق...